بقلم – د. محمد عفيفى
يعتبر سعد زغلول -الذى تمر اليوم الذكرى التسعون لوفاته- من أهم الشخصيات المحورية في تاريخ مصر في القرن العشرين، ولعله بحق الشخصية الأساسية التي فرضت ظلها على النصف الأول من القرن العشرين، سواء من خلال دوره في ثورة ١٩، أو من خلال تأسيسه لحزب الوفد، الذي أصبح محور الحياة السياسية المصرية حتى قيام ثورة ٢٣ يوليو.
تعتبر رواية «أمام العرش » لنجيب محفوظ من رواياته المختلفة، إذ تمثل عودة لكاتبنا من جديد لسلسلة رواياته التاريخية والتي بدأها بالروايات الفرعونية، وفي نفس الوقت يتستر محفوظ وراء التاريخ ليحاكم زعماء مصر دون أن يتخلى عن حذره المعهود، وفي الوقت نفسه يقدم رؤية صادقة لجيله لتطور هذا التاريخ. إذ يحاكم محفوظ زعماء مصر أمام محكمة الآلهة الفرعونية أوزوريس وإيزيس، وهكذا يعطي محفوظ لنفسه الأداة والحيلة التي من خلالها نتعرف في الحقيقة على رؤية محفوظ وجيله لكل زعيم.
وما يهمنا هنا هو رؤية محفوظ لسعد زغلول، وواضح منذ البداية الإعجاب الشديد لمحفوظ بزغلول، بل نستطيع أن نقول بصدق إنه زعيمه الأوحد، أو إذا شئنا الدقة زعيمه الأول، لأن محفوظ يعشق أيضًا مصطفى النحاس، لكن ليس على النحو الذي نعهده عند حديثه عن سعد زغلول.
ومنذ بداية الفصل الخاص بسعد زغلول نلمح ولع محفوظ بسعد زغلول؛ إذ يصف سعد زغلول قائلاً: «دخل رجل طويل القامة، مهيب الطلعة، قوي القسمات، جذاب الملامح»، وهكذا يرسم محفوظ لسعد زغلول كل صفات «كاريزما» الزعيم.
ثم يحدد محفوظ موقع وأهمية ثورة ١٩ في التاريخ المصري على لسان الزعيم الفرعوني أبنوم صاحب أول ثورة شعبية في تاريخ مصر، إذ يخاطب أبنوم زغلول قائلاً: «لقد قمت أنا بأول ثورة شعبية في نهاية الدولة القديمة، وقمت أنت بالثورة الشعبية الثانية بعد آلاف السنين، فأنت أخي وخليفتي وحبيبي». هكذا يوضح محفوظ انحيازه التام لسعد زغلول وثورة ١٩، ويربط بينها وبين ثورة أبنوم في التاريخ الفرعوني، ويتجاوز محفوظ السرديات التقليدية في تاريخ مصر ويرفض الاعتراف بما يسمى ثورة القاهرة الأولى وثورة القاهرة الثانية أيام الحملة الفرنسية، وحتى الثورة العرابية في عام ١٨٨١، ولا يرى في تاريخ مصر من ثورات شعبية إلا ثورة أبنوم وثورة زغلول.
بل وتزداد حفاوة محفوظ بثورة ١٩ وسعد زغلول، إذ يسرد على لسان الملك خوفو مقارنة مجازية بين ثورة أبنوم وثورة ١٩ قائلاً: «ثورة أبنوم كانت ثورة العامة على الصفوة، أما ثورة سعد زغلول فكانت ثورة شعب مصر كله فقراء وأغنياء على الاحتلال الأجنبي». هكذا يضعها خوفوـ أو في الحقيقة نجيب محفوظ ـ في المرتبة الأولى بين الثورات المصرية، ويضع زعيمها، أو زعيمه، في المقدمة.
ويصل إعجاب محفوظ بسعد زغلول إلى ذروته عندما يقول له على لسان الملك الفرعوني مينا موحد القطرين: «لقد وحدت المصريين كما وحدت أنا مملكتهم، فأنت في ذلك صديقي وخليفتي».
هكذا يتضح مدى ولع محفوظ وجيله بزعامة سعد زغلول بطل الثورة الشعبية العظمى في تاريخ مصر، وبطل وحدة المصريين، لا سيما مع شعار ثورة ١٩ عن وحدة الهلال والصليب.
ويحاول محفوظ أن يبدو متوازنًا، متحدثًا عن الإيجابيات والسلبيات في حياة سعد زغلول، فينتقدـ ولكن برقةـ ممارسة زغلول للعمل السياسي في ظل الاحتلال الإنجليزي، وتوليه الوزارة، فضلاً عن اختلاف الخط السياسي لسعد زغلول عن الحزب الوطني وزعيميه مصطفى كامل ومحمد فريد، ويأتي ذلك النقد في أسطرٍ قليلة على لسان أمحتب وزير الملك زوسر. ويعطي محفوظ لمعشوقه سعد زغلول سطورا عديدة للدفاع عن موقفه، وكيف كان زغلول عمليًا بينما كان الحزب الوطني رومانسيًا، والسياسة لا تعرف الرومانسية.
ولكن اللافت للنظر أن محفوظ يجعل الإله الكبير أوزوريس يخرج عن وقاره وينبري مدافعًا عن زغلول قائلاً: «أعمال هذا الزعيم ـ زغلول ـ مدونة في الكتاب لمن يريد أن يطلع عليها ولكننا في هذه المحكمة لا نناقش إلا الأعمال الفاضلة». والأكثر من ذلك وفي محاولة جريئة من محفوظ لنقد المقولة السائدة إن جمال عبدالناصر هو أول مصري يحكم مصر منذ عهود الفراعنة، ينفي محفوظ ذلك مؤكدًا العكس، وينتصر لسعد زغلول على لسان أوزوريس قائلاً: «إنك ـ سعد زغلول ـ أول مصري يتولى الحكم منذ العهد الفرعوني، وتوليته بإرادة االشعب».
هيكل وإعادة الاعتبار إلى ثورة ١٩ وسعد زغلول:
مر بنا كيف نظر نجيب محفوظ وجيله إلى ثورة ١٩ وزعيمها سعد زغلول، وكيف اعتبرها الثورة الشعبية الكبرى في تاريخ مصر. لكن هذا الجيل سيُصدم في طبيعة النظرة السائدة لثورة ١٩ بعد قيام ثورة ٢٣ يوليو، حيث لجأ البعض إلى نظرية القطيعة في التاريخ عوضًا عن الاستمرارية في التاريخ. بل ووصل الأمر بالبعض إلى القول بأن تاريخ مصر المعاصر يبدأ بثورة يوليو، والتركيز على فشل ثورة ١٩ وإرجاع السبب وراء فشل الثورة إلى قيادتها ـ سعد زغلول ـ التي لم ترتفع إلى مستوى الحدث.
«ضاعت ثورة ١٩١٩ ولم تستطع أن تحقق النتائج التي كان يجب أن تحققها... الصفوف التي تراصت في ثورة ١٩ لتواجه الطغيان، لم تلبث إلا قليلاً، ثم شغلها فيما بينها أفرادًا وطبقات، وكانت النتيجة فشلاً كبيرًا، فقد زاد الطغيان بعدها تحكمًا فينا، سواء بواسطة قوات الاحتلال السافرة أو بصنائع الاحتلال المقنعة التي كان يتزعمها آنذاك السلطان فؤاد وبعده ابنه فاروق. ولم يحصد الشعب إلا الشكوك في نفسه، وإلا الكراهية والبغضاء والأحقاد فيما بين أفراده وطبقاته، وشحب الأمل الذي كان ينتظر أن تحققه ثورة ١٩١٩». وأرجع هؤلاء فشل ثورة ١٩ إلى الطبيعة البرجوازية لقادتها وعلى رأسهم سعد زغلول، الذي «ركب الموجة الثورية»، إذ حدثت الثورة وسعد زغلول في المنفى خارج مصر، وفوجئ هؤلاء القادة بالثورة، ولم يكونوا على مستواها.
لم يدرك هؤلاء أن ثورة ١٩ كانت خير تعبير عن توهج القومية المصرية، وترتب عليها صدور تصريح ٢٨ فبراير، الذي على أساسه أعلن استقلال المملكة المصرية.
وسيستمر هذا العداء المصطنع بين ثورتي ١٩١٩ وثورة ١٩٥٢، ربما حتى هزيمة ١٩٦٧. حيث تبدأ حركة هادئة لإعادة قراءة التاريخ، حتى نستطيع تفهم لماذا «النكسة» أو «الهزيمة» أو «النكبة الجديدة»، بعد النكبة القديمة في عام ١٩٤٨.
ولدينا مصدر هام في هذا الشأن وهو المقدمة الاستثنائية التي كتبها الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل للكتاب التذكاري الذي صدر عن الأهرام بمناسبة مرور ٥٠ عامًا على ثورة ١٩١٩.
ويقدم هيكل مراجعة تامة لموقف ثورة يوليو من ثورة ١٩١٩. إذ يفتخر هيكل بأن هذا الكتاب «ثورة ١٩١٩» هو أول عمل ينشره مركز الدراسات التاريخية لمصر المعاصرة، الذي أنشأه الأهرام. ويعترف هيكل بأن:»نشر هذا العمل وتوقيته، فى تحية صفحة من أهم صفحات التاريخ المصري الحديث، وهى ثورة ١٩١٩، ومرور خمسين عامًا على قيامها».
هكذا تُعيد ثورة يوليو الاعتبار لثورة ١٩١٩، لكن ذلك كان يدور في إطار حركة مراجعة شاملة للتاريخ المصري الحديث، للإجابة على السؤال الذي طرحته النكسة على الساحة السياسية والثقافية، لماذا هُزمنا؟
ولذلك يرى هيكل أن هدفه من إنشاء مركز الدراسات التاريخية هو تقديم قراءة جديدة للتاريخ. قراءة تُعيد الاعتبار إلى الماضي، هذا الماضي الذي للأسف وصمه البعض بالعهد البائد، وحاول البعض تشويهه، ظنًا أن هذا يصب في صالح الحاضر، أي في صالح ثورة يوليو. لكن هيكل يضع أول لبنة في صرح المراجعة التاريخية من خلال طرح فكرة الاستمرارية في التاريخ، متهمًا من حاول تشويه تاريخ مصر قبل الثورة بالقصور الفكري. مشددًا على أهمية فكرة التواصل بين الحاضر والماضي مهما كان الاختلاف بينهما.
الأكثر من ذلك أن هيكل يضع ثورة ١٩١٩ في نصابها الصحيح كمحور لتاريخ مصر المعاصر:
«قبلها نهتم ـيقصد ثورة ١٩١٩ ـ ولكن بغير تركيز حتى لا تتشعب الجهود، ومنها وعليها وبعدها ـ ثورة ١٩١٩ ـ يكون التركيز كاملاً وشديدًا».
ويعترف هيكل بأن السبب وراء هذه المراجعة يعود إلى نكسة ١٩٦٧، فمناخ الإحباط العام الذي ساد مصر آنذاك، دفع الأهرام للعودة إلى التاريخ، واستلهام الزمن الجميل. ومن هنا كان البحث عن لحظة تألق للشعب المصري، لحظة خالدة في الذاكرة الجماعية المصرية. وصاحب ذلك اقتراب الذكرى الخمسين لثورة الشعب المصري في عام ١٩١٩، من هنا العودة للتاريخ من أجل:
«أن يشعر الشعب المصري بنوع من الطمأنينة مع صفحة من تاريخه القريب، ومهما كانت الوحشة التي يعيش فيها الشعب المصري مع جو النكسة فإن الشعوب التي صنعت الماضي لديها إذًا ملكات وقدرات صنع المستقبل».
من هنا حرص هيكل والأهرام على نشر ٣٥ حلقة عن ثورة ١٩١٩، في شهري مارس وإبريل من عام ١٩٦٩. ثم جمعت هذه الحلقات لتشكل متن الكتاب، الذي قدم له هيكل بهذه المقدمة التاريخية الاستثنائية، ويُلِّح هيكل على أنه قدم هذا الكتاب من أجل «الحق والحقيقة».
إن الشهادة التاريخية التي يقدمها نجيب محفوظ وحسنين هيكل هى بحق خير تعبير عن أثر القومية المصرية وثورة ١٩ وزعيمها سعد زغلول، والتجربة الليبرالية اللاحقة عليها في تكوين جيل بأكمله، جيل محفوظ وهيكل، هذا الجيل الذي رد الاعتبار إلى ثورة ١٩ وزعيمها، وحث على فكرة الاستمرارية في تاريخ الثورات المصرية.