الأربعاء 26 يونيو 2024

د. رفعت السعيد البذرة التى ترعرعت لمواجهة المتأسلمين

24-8-2017 | 22:29

بقلم: إيمان رسلان

فى أوائل الثمانينيات وكنت فى نهاية المرحلة الثانوية دخلت حزب التجمع لأول مرة، ضمن مجموعة من البنات والأصدقاء، وكان حزب التجمع وقتها فى أوج قوته حتى إن جريدة الأهالى الناطقة باسمه كانت تصادر كل عدد، وكان المقر المركزى للحزب فى طلعت حرب دائمًا يمتلئ بكافة الوجوه، التى كنت أسمع عنها من كتاب وصحفيين وأساتذة جامعة، بل ووزراء سابقين، وكان الرمز خالد محيى الدين هو الاسم الجامع لكل هؤلاء أما الدينامو أوالداهية، التى تدير فعليا التجمع فالمعروف أنه د. رفعت السعيد.

فى الحزب شاهدت د. فؤاد مرسى وزير التموين فى حقبة السبعينيات، ود إسماعيل صبرى عبدالله و نبيل الهلالى، وإنجى أفلاطون، ولطيفة الزيات وصلاح عيسى، والعشرات من الأسماء، وأذكر أنه كان هناك اجتماع كبير للجنة الثقافة القومية للتباحث حول ما سيتم تجاه الجناح الإسرائيلى فى معرض الكتاب، وهو الذى يتم لأول مرة بعد توقيع كامب ديفيد وفى هذا الاجتماع سمعت لأول مرة صوت د.رفعت السعيد غاضبًا ثم يخرج من القاعة ويدخل وهكذا.

وتقرر أن تكون هناك مظاهرة حاشدة فى معرض الكتاب فى مكانه القديم فى نهاية كوبرى قصر النيل، وبالفعل كانت مظاهرة حاشدة جدًا لا أنسى تفاصيلها حتى الآن ولأننى كنت صغيرة فقد كان سهل لى تواجدى بدون احتكاك أمنى وارتديت الكوفية الفلسطينى لتغطى أغلب جسمى ووقفت بها أمام الجناح.

بعدها بأيام فوجئت بالدكتور رفعت ينادى على بلفظ يا بنوته، ويطبطب على ويقول كلاماً أسعدنى جدًا، ومن ساعتها وأنا أعرف د. رفعت السعيد، فى علاقة إنسانية عنوانها مشاعر الأب، وهو ما تجسد بعد ذلك بسنوات فى مواقف عدة تعرضت لها وكان نعم الداعم لى فى كل المواقف، ومن خلال هذه المعرفة والاقتراب من حزب التجمع، الذى كان البوتقة، التى تصهر جميع التيارات اليسارية بكل طوائفها ترعرع جيل جديد من الشباب لم يكن يومًا منضمًا لأى أحزاب شيوعية أو غيرها، كما كان يحدث فى مراحل سابقة، وكان مؤسس هذا الاتجاه هو د. رفعت السعيد أى تعميق هذا الاتجاه إلا وهو الوجود العلنى وحزب رسمى يمثل اليسار، سمعته كثيرًا وقرأت كتبه بل وقرأت الروايتين اللتين أصدرهما وهى البصقة والسكن فى الأدوار العليا، وأكاد أقول ولست متخصصة فى النقد الأدبى بأنهما روايتان رائعتان وإن السياسة خطفته من الأدب، وإن لم تخطفه من الكتابة أو دراسة التاريخ، التى حصل منها على درجة الدكتوراه والتاريخ لحركة اليسار المصري.

بالوقت عرفت منه وقرأت ما كتبه عن التيار الدينى وتحديدًا عن الإخوان والجماعات الإسلامية، التى خرجت من عباءة الإخوان، وكان هو فى كل مقال له لابد وإن يكتب تعبير التأسلم والمتأسلمين حتى صار هذا التعبير الذى صكه د. رفعت السعيد وصارت له حقوق الملكية الفكرية لأنهم الإسلام السياسي.

وهذا التعبير أو الصياغة هى التى أصبح يستخدمها الآن حتى رجل الشارع البسيط حينما يريد وصف تجار الدين أو الإخوان والسلفيين.

د. رفعت السعيد بالفعل والقول بذر بذور تعرية هذا التيار «صنيعة الاستعمار» فى التربة المصرية على مدار سنوات، وهذا الزرع لم يذهب هدرًا وإنما استمر حتى لو أصيب فى بعض الأحيان بنقص فى النمو أو التوقف أحيانًا، كما حدث فى عصر مبارك، الذى عبر صفقاته مع هذا التيار استطاع أن ينمو ويترعرع فى كل منافذ الحياة الاجتماعية فى مصر.

أذكر أننا فى أحد حواراتى مع د.رفعت سألته .. لقد سرقوا المجتمع من أسفل واستطاعوا أن ينشروا ثقافتهم فى الشارع، حيث إن الثقافة هى أسلوب حياة فى الزى واللغة والخدمات وانتشر الحجاب كدليل قوة لهم فى الشارع، كما قال العريان، بعد ذلك حينما حكموا مصر لمدة عام من خلال المستوصفات والجوامع كمراكز للدروس الخصوصية وتقديم الخدمات.

وكل ذلك بأموال المصريين وليس بأموالهم، بل كانت ثرواتهم واستثماراتهم فى الاقتصاد الحلال من مضاربات على العملة الوطنية وغيرها وكان أخطرها توغلهم السافر فى المؤسسة التعليمية، بل وسيطرتهم شبه الكاملة عليها فأجاب رفعت بابتسامته الساخرة المعروفة عنه، وهو كان دائم الفضح لذلك عبر كتابته المستمرة، إنها الصفقة والآن أقول الصفقة المحرمة ولا أنسى كيف علمنى أن أواجه هذا التيار حتى وهم فى الحكم فى سنة حكمهم ومن قبلها أيام مبارك وأذكر أن الندوة الوحيدة لتى جاء فيها صفوت الشريف للمصور أنه فى نهاية اللقاء طلب منى الانضمام للحزب الوطنى ولكن زميلى مجدى الدقاق رد بدلا منى بأنى عضو بالتجمع فقال أكيد تربية رفعت السعيد ثم تعددت حواراتى معه فى السياسة، وفى التعليم تخصصى المحدد وكان آخر لقاء لنا لمدة ثلاثة أيام متواصلة فى مكتبة الإسكندرية وتركنى أتحدث طويلًا عن كيفية السيطرة لهذا الفكر على مؤسسات التعليم من أسفل إلى أعلى وكانت من أمتع الأيام إلى قضيتها معه، لأننا تحدثنا بعمق وإنسانية خاصة بعد أن فقد شريكة حياته ليلى الشال، التى فارقت الدنيا منذ أقل من ٣ سنوات فقط، وكانت علاقتى بها بشوشة تعلمت منها، ومن هذا الجيل المصابرة وكيف توفق بين البيت والأسرة.

وفى آخر حوار لنا فى العيد الماضى ونشرته المصور، تحدثنا فى أمور تشغلنى فى السياسة وتجادلنا قليلا وبعدها بأيام اتصل بى ليقول لى ألم أقل لك، واتفقنا على لقاء كالعادة سيكون مبكرًا فى موعد لا يتجاوز التاسعة صباحًا بالحزب، حيث مازال د. رفعت يذهب إليه ولم تتغير عادته أبدًا أو يخلف موعدًا.

لذلك كان الموعد الوحيد الذى خلفه هذه المرة هو ألا نذهب للقائه ولا نجده، حيث مات فى هدوء رغم أن حياته كانت صاخبة.

حتى أننى كنت أتندر وأقول ما اجتمع اثنان أو أكثر من اليسار أو التحية إلا وكانت سيرة رفعت السعيد حاضرة ودائمًا ما كان يهاجم فى الفترة الأخيرة بسبب مواقفه السياسية، لاسيما منذ أواخر عهد مبارك رغم أنه كان معارضًا شرسًا أيام المجلس العسكرى والإخوان ثم دعم الرئيس السيسى ووقف بجانبه فى تحالف واسع من اليساريين والوطنيين كان اسمه تحالف ٣٠ يونيه، ولذلك كان من الطبيعى أن تنعاه رئاسة الجمهورية ببيان قوى للغاية بينما على الجانب الآخر يسبه ويلعنه الإخوان والسلفيون، بل وبعض أسماء من اليسار وهذا طبيعى ومنطقى لمن يعمل بالعمل العام فله ما له وعليه ما عليه لذلك.

وفى جنازته لم أستطع إلا أن أفكر أننا نودع ليس رفعت السعيد فقط، وإنما نودع جيلا بأكمله وقف ضد الملك وأيد عبدالناصر رغم أنه سجنهم جميعًا ومنهم د. رفعت وعارض السادات ومبارك والإخوان.

هذا الجيل الذى كان له أثر كبير على العقل المصرى والثقافة المصرية، فهل آن الأوان، وقد أصبح رفعت السعيد وبعض من رفاقه فى رحاب الله وأطال العمر للباقين أن تكون فرصة لفتح حوار للنخبة المصرية خاصة أجيال الوسط من ٤٠ عامًا وما بعدها بكل أنواعها بعيدًا عن ديكتاتورية أى فئة أو طبقة أيا كان المسمى للوصول إلى حد أدنى من الاتفاق على حد أدنى من العمل المشترك تبنى به نحو مستقبل ديمقراطى حقيقى يقف أمام الفاشية بكل مسمياتها، التى حارب من أجلها د. رفعت السعيد، وهو رحل الآن فهل من حجة للنخبة المصرية فى التخلص من آفة الانقسام والتخوين والذاتية وعدالة اجتماعية لوطن أكثر رحابة كان يسعى إليه «رفعت وجيله شاء من شاء وأبى من أبى فقد ترك د.رفعت منصبه ورحل.