أعد الكتاب للنشر : محمد المكاوي
أصبح عبدالحليم حافظ أشهر مريض في الشرق الأوسط وأكثر المتعاملين مع الأطباء... قصة البلهارسيا معه مشهورة.. ولما وضعت اخصائية الكبد العالمية «شيلا شابوك» أصابعها الرقيقة عليه قالت بهلع: لابد أن تسير ووراءك بنك دم.. وفى شهر مارس عام 1972 حينما كان عبدالحليم يحضر الاحتفالات بعيد ميلاد صديقه الملك «الحسن» في المغرب زارته نوبة النزيف ونزف الشاب الرقيق ثلاثة لترات دم، وتم استدعاء «كونسولتو» عالمي وقرروا إجراء عملية حقن الدوالي ونجحت العملية وعاش المريض ليملأ الدنيا بالحب والخير والأمل والنغمة الحلوة العذبة....
تجربة حب أخيرة
اصحي يا أستاذ هناك فارق بين الإعجاب والصداقة والحب..
فالإعجاب لحظة.. والصداقة فترة.. والحب عمر!
المرأة في أمريكا لا تصدق أن الرجل يحبها إلا إذا أنفق عليها ببذخ، ولا تصدق الإسبانية أن الرجل يحبها إلا إذا صرع ثورا تحت أقدامها، ولا تصدق الباريسية أن الرجل يحبها إلا إذا جلب أحلي الأزياء لها، والمصرية لا تصدق أن الرجل يحبها إلا إذا أصبح زوجها!!
الرجل في كل بلاد الدنيا.. إذا صادف الحب أنكره وإذا لم يصادفه ادعاه!
كل هذا كلام نقرأه في الحب.. كلام جرائد.. أو كلام فلاسفة أو كلام أغان
وكلام في سرك.. تجربة الحب.. تجربة غير محددة ليس لها قواعد أو أصول ولكن أصدق الحب وأبرأ قوالبه وأحلي أشكاله هو الذي يأتي للشخص نفسه.. لا اسمه ولا سنه ولا ماله ولا مركزه ولا شهرته!
أصدق الحب في الدنيا من نصيب الفقراء والمغمورين!
لقد كان السؤال التقليدي لعبدالحليم حافظ منذ أكثر من عشرين سنة: لماذا لا تتزوج؟ ورغم أن إجاباته كانت متعددة ومختلفة إلا أنها كانت تحمل معني واحداً لحقيقة واحدة أنه لم يجد المرأة التي تدفعه للزواج بها.. والرجل الرومانسي دائما لا يحب ليتزوج ولكنه يتزوج ليحب!
الزواج عنده ليس هو الغرض ولكنه وسيلة لاستمرار الحب وتصور أن عبدالحليم.. حليمو.. العندليب.. أبوشعر سايح.. وصوت طايح. وعيون نعسانة ورموش دباحة ذلك الفتي الذي يسبب ظهوره علي المسرح للحسناوات عدة حالات إغماء ومغص مستعص ربما أعقبه إسهال نفسي بسبب عدم السيطرة علي النفس من شدة الإعجاب والانبهار لم يجد حتي الآن الحب الحقيقي!
لقد شبع عبدالحليم من حب البنات
من جنونهن المراهق
ولكن كل ما صادفه هو حب عبدالحليم حافظ «المطرب» لا حب عبدالحليم حافظ فقط!
حب.. السبب فيه الأضواء.. وطرقعة فلاش المصورين.. وفرقعة أحاديث الصحفيين.. حب سينما!!
ومهما اختلفت تفاصيل قصص الحب التي عاشها عبدالحليم حافظ بعدما اختلف اسم بطلاتها أو جنسياتهن مصرية .. مغربية .. لبنانية.. تونسية.. جزائرية فإنه في كل نهاية يكتشف أنهن يحببن عبدالحليم حافظ المطرب لا عبدالحليم حافظ فقط!
الحب المجرد.. صعب أن تحصل عليه إلا إذا كنت خاليا من المزايا.. من الغني والصيت والمنصب .. تعرف هذا إذا حصل أن الفتاة تحبك لذاتك وليس لدفاتر شيكاتك لهذا يهرب العظماء من العظمة فتنزل الأميرة في فنادق الدرجة الثالثة باسم مستعار ويلبس يول براينر باروكة حين يمشي في شوارع أمريكا وأوقع أنا مقالاتي بالحرفين ح.ح!!
وبالمناسبة كنت أصعد في يوم لمكتبي بمجلة «الكواكب» فاستوقفني موظف الاستعلامات وسألني:علي فين؟ قلت عندي موعد مع ح.ح!
فرد علي الرجل بثقة:
ح.ح. خرج من ساعة!
المشهورون عموما- ولست أنا منهم - يشعرون بلذة في التخفي ربما لأن هذا هو الدليل علي شهرتهم!
ظريف طبعا أن يركب أوناسيس «أتوبيس».. فيدوس رجل علي أصبع قدمه وينظر إليه قائلاً: مش عاجبك اركب تاكسي مامعكش استحمل .. آه!!
عبدالحليم يبحث عن حياة الرجل العادي بغير صخب ولا ضجيج ولا زحام وبغير شهرة وبغير حب زائف إنه لا يجد هذه الحياة إلا عندما يخرج بعيداً عن الدائرة الناطقة بأغانيه في لندن.. في باريس.. في أمريكا.. إنه يجد نفسه القديمة يجد عبدالحليم شبانة بدمه ولحمه وعقله ويعيش في ذكرياته البعيدة التي لا يقطعها سوي كلمة مغترب أو مهاجر.
- عبدالحليم حافظ أهه!!
أمريكا بلد غريبة في ناسها.. في شوارعها.. في تاريخها.. في ثرائها.. في مجلاتها.. في حكومتها.. في أفكارها في مبادئها.
مهندس مصري هناك وضع تصميماً جديداً لمدينة نيويورك يعالج مشكلة الزحام بها ويرتب مواصلاتها وطرق المشاة وخطوط التلغراف وأسلاك التليفونات ويحل عقدة وصول المياه إلي آخر أدوار ناطحات السحاب وأسباب سرقة البنوك.
ونجح المهندس المصري في تصميمه الهندسي الدقيق، واجتمع فرع من فروع الحكومة هناك وقرروا منح المهندس مكافأة تقديرية.
عبدالحليم ذهب لصديقه فقد كان عنده له سؤال حكيم:
- لماذا لم تعد تصميمك لمدينة القاهرة؟!
وعندما دخل عبدالحليم بيت المهندس وجد عنده بعض الاصدقاء والصديقات في حفل كوكتيل صغير بمناسبة نجاح المشروع.
ورآها!
واقترب منها وهي تقف وحيدة ترسم علي شفتيها ابتسامة متحجرة وبدأ حديثه معها:
- جود نايت!
وردت تحيته بإيماءة من رأسها وظل ينظر إليها دون أن يجد ما يقوله.. نسي الكلام ونسي نفسه ونسي كل أغاني الحب وظل ينظر مشدوها حتي ضحكت هي من سكوته.
وسألته:
من أي بلد أنت؟
وجاءته فرصة قال لها إنه مصري.. وادعي أمامها أنه مهندس وأخفي عنها شهرته وفنه وصيته وثراءه.. أخفي عنها عبدالحليم المطرب وأظهر لها عبدالحليم فقط!
كانت أمريكية لها عيون الهنود وبشرة في لون التفاح وأنف أرق من عقرب الثواني في ساعة جدي وشفتان أشهي من كل منتجات جروبي وشعر أسود من بختي!
واقترب منها وفتح عليه ربنا بسيل من الكلام حدثها عن تجربته مع كل نساء العالم.. قال لها إن الباريسية نظيفة والانجليزية أنيقة والإيطالية عبيطة والمصرية خفيفة الدم.. وحكي لها عن رحلاته عن العادات الغربية لكل بلاد الأرض.
عن خوفو وخفرع ومنقرع وأهرام الجيزة وبرج الجزيرة وأبوالهول.. والتصق بها وتعلقت به وكان يحكي لها أسخف النكات فكادت تقع من طولها من شدة الضحك:
«مرة واحدة جه يقعد علي قهوة قعد علي شاي»!
ويحيرها بأغبي الفوازير
- زجاجة كوكاكولا لا تنشرب ولا تندلق؟
ويسألها بأدق الأسئلة عن حياتها وأكثرها سذاجة
- تحبى الفراولة أكتر.. ولا المنجة!
ولف خصرها بيده وحضنها علي أنغام التانجو فقالت له بالانجليزية الرقيقة..
- أخشي أن تكون معلوماتك في الهندسة كمعلوماتك في الرقص!
ورغم أن أول سؤال يتعلمه الطفل المصري في كتاب «كيف تتكلم الانجليزية» هو
- هوات.. إذ.. يور.. نيم؟
إلا أن حليمو نسي كل هذا وانتهت الرقصة فصافحته وخلعت منه فلم يكتشف أنه نسي أن يسألها عن اسمها إلا بعد أن احتاج أن يناديها.
يا.....!
هنا ردت عليه باختصار ورقة!
دوفي!
قال عبدالحليم محاولا أن يفتح مجري جديدا للحديث في كلام:
هناك ممثلة في هوليوود لها نفس الاسم مثلت عدة أفلام «جبابرة الجحيم ونافذة علي المحيط» وأخذت عدة جوائز منها التفاحة الذهبية وحصلت علي جائزة ثانية في مهرجان كان.
- ياه .. ولماذا انت تتبع نشاطها بهذا الشكل!
-لأني معجب بها!
وسكتت دوفي لحظة ثم قالت لعبدالحليم!
- أنا هذه الممثلة!
ولفهما الحديث.. اعترفت له بأشياء كثيرة ولم تكن تدري لم تعرف.. ولكن بعض أسرارنا قد تكون أثقل من أن نتحمل حملها وحدنا..
كانت «دوفي» زوجة لرئيس إحدي الولايات في الولايات المتحدة تزوجها الرجل بعد قصة حب عنيفة جدا وطويلة جدا .. وفي سرية تامة تم عقد القران دون إشارة عن هذا في أي صحيفة أو مجلة خشية أن يخسر بعض أصوات الناخبين وبعد نجاحه وتوليه الرياسة ظهر مع «دوفي» في المجتمعات والحفلات فشعر الناس بأنه نجح في خداعهم وأنه استهتر بعقلياتهم وحرضهم علي ذلك منافسوه من الأحزاب الأخري وقاموا بعملية شحن نفسي وعصبي جماهيري خطيرة أدت إلي انفجار داخلي بعدة مظاهرات مدنية استخدمت فيها الشرطة القنابل المسيلة للدموع لتفريق المتظاهرين.. واشتركت عربات الاطفاء فرشتهم بخراطيم المياه الملونة وهربت «دوفي» في سيارة خاصة إلي مقاطعة أخري خوفا علي حياتها!
وفي اليوم التالي أعلن رئيس الولاية في خطاب رسمي أن علاقته بدوفي هي مجرد صداقة بحتة وعلاقة فنانة برئيس ولاية لا أكثر ولا أقل وأرسل لها خطابا لم يكتبه بخط يده بل بحروف آلة كاتبة صماء خشية أن يقع تحت نظر خصومه قال لها فيه:
حبيبتي
أعتذر لك..كان عليّ أن أختار بينك وبين مقعد الحكم.. والجميلات كثيرات والمقعد واحد
- قصة تشبه قصة حسن ونعيمة!
- من حسن ونعيمة؟!
- فنان شعبي أحب ابنة أحد أثرياء الريف المصري فرفض أهلها زواجها منه!
- عقلية أمريكا هنا كعقلية الريف المصري لابد أن تتغير!
- في مصر يكرهون الفنانين!
- في مصر لا نعرف الكراهية!
- .... وهل عرفت الحب؟
- آه ...
- وما هو؟
- الحب ضحكة وفرحة ورقصة.
- والدموع والألم؟
- الحب عذاب للأغنياء
- تعني..
- الحب لا يطلب بالدموع وإلا كان تسولا
- وإذا فقدت الحب؟
- تسعدني ذكراه
- وإذا خانتك حبيبتك؟
- أعرف أن حبها لم يكن أصيلا وكل المزيفات رخيصة لا تستحق الزعل.
- كلام خبير.. كم مرة عرفت الحب؟
- الحب الحقيقي كالموت والولادة .. لا يعرفه الإنسان غير مرة واحدة!
- تقصد؟
- أقصد أن الرجل الذي ولد مرتين لم يولد بعد!
- وماذا تأخذ من الحب؟
- كل شيء
- القاعدة عندي ممنوع اللمس
- الحب استثنائية!
- تطلب القبلة!
- إنها توقيع ... اعتراف بالحب!
- والـ......
- نعم ........
- إذن ما الفرق بين الحب والخطيئة؟
- الخطيئة هي أن نفعل ما يسمح به الحب دون أن نحب!
- نعرف أن نصف الحب جنس؟
- وكل الجنس حب!
- لا .. فربما كل الجنس خيانة.
- الخيانة نفسها.. حب من الزاوية الأخري!
- ولكن...
- الحب هو الثمن الشريف الوحيد للجنس!
- والزواج؟
- هناك امرأة تعطي نفسها لرجل تحبه ولم تتزوجه بعد أشرف من التي تعطي نفسها لزوجها الذي لم تحبه بعد!
- كيف؟
- الساقطة.. تعطي نفسها لرجل لا تحبه من أجل القروش وهي تتحول إلي أكل وشرب وأقمشة.. كذلك الزوجة فهي تعطي نفسها طلبا للأكل والشرب.
- الجنس.. خلق لبقاء نوع البشر..
- ربما كان لدماره
وعقوبة الخيانة!
- الإعدام .. إعدام الحب!
- وماذا يحميك من الشك في حبك؟
- الحب ثقة !
- وإذا رأيتها مع رجل؟
- أثق بها!
- ولو كانت عيناها تغوصان في عينه؟
- أثق بها!
- وأصابعها تعانق أصابعه؟
- أثق بها!
- وشفتاها علي شفتيه
- أثق بها!
- أي ثقة هذه؟
- أثق أنها تخونني!!
- وما الفرق بين الغدر والخيانة؟
- الغدر طعنة لحظة .. والخيانة طعنة فكر.. الغدر جرح في الصدر.. والخيانة جرح في الخلف.. الغدر شجاعة .. والخيانة جبن .. الغدر ضوء .. والخيانة ظلام .. وكلاهما يقتل الحب!
- الخيانة برواز «للحب».. تحبه ولا تقتله!
- تعني أن الحب يعيش رغم الخيانة؟
- إذا كان صادقا يعيش.. ولكنها حياة في زنزانة!
- وماذا يعالج الخيانة؟
- التوبة
- والذكري؟
- ينسفها الإخلاص!
- والانتقام؟
- موجود في الحرب لا في الحياة!
- ماذا يقبر الحب إذن؟
- الكذب
- الـ............؟
- آه.. الكذب غش.. والغش نصب ..والنصب جناية إنه أبشع جرائم الحب.
- وعقوبتها؟
- الكذابون يدخلون النار!
- تحتمل طعنات الغدر والخيانة والكذب وتقبل أن يستمر الحب؟
- أقبل...
- لأنك ضعيف..
- يا..عزيزتي الضعفاء لا يتحملون الطعنات!
كانت رقصة التانجو علي وشك الانتهاء.. وكان الدكتور حسام وهو يراقص رفيقتها قد هز أذنيه وطرطقها ليسمع حوار حليم في حلبة الرقص مع قطعة الزبد السائح بين يديه وما كاد ينتهي حتي قال له:
- عيني يا عيني..
وعلي باب شقة المهندس المصري في «هارلم» أشهر ضواحي أمريكا... ودع عبدالحليم «دوفي» واعطاها عنوان الفندق ورقم تليفونه واعطته قبلة بريئة علي خده!
وانصرفت....
وخلي اللي نفسه فى غرفته..
وعندما بلغت الساعة الثانية بعد منتصف الليل دق جرس التليفون في الغرفة رقم 137 الخاصة بالمطرب المصري عبدالحليم حافظ ليسمع صوت دوفي وهي تعترف إليه:
- حليم .. آي لف يو!!
وانقطعت المكالمة القصيرة ليظهر صوت مجدى العمروسي في مكالمة عاجلة «ترانك» من الدور الحادي عشر في برج الزمالك بالقاهرة إلي أمريكا رأسا:
- «حليم .. بعد غد حفلتك..لا تتأخر» عشرة ملايين عربي علي الأقل في انتظار ليلتك.. قاعة الاحتفالات الكبري حجزت عن آخرها.. التليفزيون باع الشرائط قبل تسجيلها وعربات الإذاعة حجزت ممراتها الهوائية من الآن:
حليم..أرجوك ... لا تتأخر!
وفي الرابعة من صباح اليوم التالي وصلت الطائرة التابعة لشركة الطيران العربية برحلتها رقم 4322 وبين ركابها الفنان عبدالحليم حافظ وكان في استقباله بالمطار عدد كبير بل كبير جدا من الحسناوات كلهن يلوحن له وينطقن باسمه من المؤكد أنهن يحببنه..
ولكن من المؤكد أيضا أنهن يحببن عبدالحليم المطرب لا عبدالحليم فقط!!
فقط!!