الأحد 26 مايو 2024

اقرأ يا «شيخ» قفاعة» .. «تلغراف» آخر ساعة

26-8-2017 | 11:26

كتب : يحيي تادرس

شوية صناديق «ومسامير» بتاكلها الصراصير

هكذا تصف والدة الحكيم مكتبة والده حيث كانت تقذف بما تحتويه في ثورة سببها ما كانت تعانيه من «والده» من فقر وفاقة جعلتها تكره كل ما يشغله عن العيش والكفاح

....

لكنني - هكذا يستطرد الحكيم - كنت حريصا علي انتقاء ما أقرأ من عيون الأدب العربي - فماذا عن الأدب العالمي؟

ظهرت ترجمة رديئة لرواية «أنا كارنينا» التي اقتبس منها عدة أعمال أشهرها المستهترة «1953» أميرة أمير - شكري سرحان - لولا صدقي - محمود المليجي و«نهر الحب» 1960 - فاتن حمامة - عمر الشريف - زكي رستم - عمر الحريري» و.... البؤساء - لفيكتور هوجو «وقد تم اقتباسها مرات عدة من أشهرها «البؤساء 1943- عباس فارس - أمينة رزق - سراج منير - حسن فايق» والبؤساء 78 فريد شوقي وعادل أدهم ومحسنة توفيق.

....

كان هذا الكتابين - حدثين مهمين لنا «تذكر هذه العبارة مع آلاف المكتبات ومئات آلاف الكتب المترجمة - هذا بالطبع غير الكتب الموجودة علي النت...»

... ولم نكن نشعر بآثار الحرب العالمية الأولى «1914- 1918».

... ولست أذكر غير حادث واحد لتحليق طائرة ألمانية فوق القاهرة ألقت بضع قنابل «شرابنل» أذكر اسم القنابل جيدا لأن هذا الوحيد من نوعه كان موضع حديث الناس.

أما مكان الحادث فكان علي ناصية شارعي عماد الدين والمغربي «عدلي باشا» أما ضحاياها فكانت إصابة عربة حنطور وحصانين..

أما أسخف أحداث الحرب فكانت رذالة الجنود الاستراليىن والسكاري من الانجليز وخطفهم ما في جيوب المارة ليلاً وما في أيدي الباعة نهاراً - أما أبرز مظاهر الحرب فكان طلاء نوافذ بيوت الإسكندرية المطلة علي البحر باللون الأسود أو الأزرق حتي لا يتسرب الضوء ليلاً إلي غواصات الألمان.

.....

وفي ذات ليلة فوجئت بالناس تتجمع وتتصايح ويخرج أصحاب الدكاكين مهللين ويقذف الخواجات بقبعاتهم في الهواء فرحين راقصين هاتفين وسألت عن الخبر - فسمعت من يصيح بجواري: الهدنة الهدنة «جسد سيد درويش هذه اللحظة في أغنيته الرائعة « اقرأ ياشيخ قفاعة تلغراف آخر ساعة اللي في جورنال البورص»...

ملحوظة: من عندي «جورنال البورص/ اجيبشيان هو اسم أقدم الجرائد المصرية علي الإطلاق...

وقامت ثورة 19 واشتعلت مصر .. ويدهشني أني لم أتجه يومئذ إلي الخطابة إذ كان اتجاهي هو تأليف الاناشيد الحماسية وأحيانا كنت ألحنها بنفسي مسترشدا في التلحين بأنغام تلك الموسيقي الجنائزية التي كانت تعزفها فرقة حسب الله «الأصلي» أمام نعوش المظاهرات.. علمت فيما بعد أنها في الأصل لبعض مارشات «شو ربان وفاجنر»

وكنا نري الفرقة تتكون من عشرة أفراد علي الأقل - لكن الذي يعمل منهم حقيقة لا يتعدي الثلاثة أما السبعة الباقون فلا يعزفون شيئا كل مهمتهم أن يحملوا آلات نفخ مسدودة أو من الخشب المطلي.. ليوهموا الناس أنهم موسيقيون وما هم إلا نوع من الكومبارس لزيادة العدد «وأذكر هنا النجم الكوميدي بالغ الحضور عبدالسلام النابلسي في شارع الحب وحسب الله الخامس عشر وكأنه أحد ملوك فرنسا قبل ثورتها....!

....

لم يكن فن الرواية معروفا في مصر إلا من بضع محاولات شديدة «التواضع» ويستكمل الحكيم:

.... وكانت بلادنا في أشد الحاجة إلي قالب الرواية لتصوير تلك الموضوعات الجديدة التي اقتضتها الحياة الاجتماعية والقومية في تلك المرحلة الهامة من مراحل تطورنا... وما كانت «عودة الروح» إلا حلقة من حلقات عمل أضخم تصورته ووضعت تخطيطه في ذهني ولم أجد الظروف الملائمة لتحقيقه.

لذلك تركت مخطوطة «عودة الروح» نائمة في أدراج مكتبي إلي أن شاءت المصادفة البحتة وأنا وكيل لنيابة طنطا أن تقع ذات يوم في يد زميلي في القضاء - رئيس محكمة الاستئناف وهو قارئ مثقف فأخذها إلي القاهرة وأصر علي نشرها - فلم أشعر إلا وهي في المطبعة ....

أما أول تمثيلية لي فكانت «الضيف الثقيل» أواخر عام 1919 وكانت من وحي الاحتلال البريطاني...

ولم يكن بالطبع من الممكن إظهار تلك المسرحية في ذلك الوقت بسبب الرقابة علي الموضوعات.

.....

ويعود الحكيم إلي كيفية التحاقه بالقضاء - كوكيل للنيابة:

... حصلت علي شهادة البكالوريا «تعادل الثانوية العامة» والتحقت بمدرسة الحقوق وكانت تتبع وزارة الحقانية «العدل» ولم تكن وقتئذ تقبل إلا عدداً محدوداً - كان في عام التحاقي قد وقف عند السبعين ولم أكن بالطبع من الطلبة المبرزين في مدرسة الحقوق - بل إني رسبت في امتحان النقل من السنة الأولي إلي الثانية - وكان رسوبي في جملة مواد أذكر منها اللغة الفرنسية وقد كانت ضرورية لنا في دراسة القانون ولم يكن التدريس باللغة العربية معروفا إلا في حدود ضيقة.

..... وكان معظم الاساتذة من الانجليز - وبعضهم لم يكن بالاستاذ الكفء بل إن بعضهم كان يأتي في حالة سكر بين ولم نكن نفهم منه كثيراً..

وكنا أحيانا نستفيد من سكره فنتوسل إليه أن ينقذنا من بعض الصفحات العسيرة في الكتاب المقرر - فكان يستجيب لنا ويقول وهو بين النوم واليقظة:

حسنا احذفوا من صفحة كذا إلي صفحة كذا ثم نعود في أسبوع آخر - بعد أن يكون قد نسي فنستعطفه مرة أخري فيعود إلي الحذف وهكذا حتي حذف لنا نصف الكتاب ولم نمتحن إلا في النصف!

.....

وعلي الرغم من ذلك رسبت في السنة الأولي وكان لهذا الرسوب أثره السيء بالطبع عند أهلي الذين استقبلوني بوجوه عابسة غاضبة وأنذروني بأن إجازة الصيف سأقضيها في الدروس وخاصة في التقوية في اللغة الفرنسية.

والتحقت بمدرسة «برلتس»

كانت من أشهر المدارس الأجنبية في ذلك الوقت - وكانت تقع علي ما أذكر في شارع سليمان - طلعت حرب - فوق مبني الأمريكيين

....

وأفادتني تلك الدراسة حتي بدأت أقرأ:

«رسائل طاحونتي الألفونس دوديه» «صدرت في إحدي روايات الهلال»

.....

ومضيت وحدي بعد أن انتهيت من المدرسة وصرت اشتري الكتب الفرنسية واقرأها مستعينا بقاموس «لاروس» وأعانني ذلك علي الإلمام بحياة المسرح الفرنسي

......

كانت الفرق التمثيلية الموجودة في ذلك الوقت خلاف فرقة «جورج أبيض» هي فرقة «عبدالرحمن رشدي»

وكانت من أنجح رواياتها مسرحية «دوران ودوران» وبعد هذا تناولتها فرقة «الريحاني» و عرضتها باسم «30 يوم فى السجن» قدمتها السينما بعد ذلك «فريد شوقي - أبو بكر عزت وآخرون»

.... ويتابع الحكيم ذكرياته عن الفرق المسرحية حتي يصل إلي

كشكش بك لنجيب الريحاني

وبربري مصر الوحيد «علي الكسار»

....

ويستكمل الحكيم ذكرياته وبداية كتاباته للمسرح وتعرضه لعمليات «نصب وخداع» لكنه يعود إلي كشكش بك

كان رواج مسرحه يعادل الاقبال علي الكباريهات ولم يكن سر رواجه في الحقيقة إلا تلك الراقصات الشقراوات الاجنبيات الوافدات علينا من الخارج عقب الحرب العالمية الأولي ممن قذف بهن الجوع من بلاد منهزمة كالنمسا وألمانيا - فملأن المسارح والحانات وقاعات الليل - وكان الشباب من الوافدين يقبلون علي تلك المحال جميعا لمصاحبة الفتيات آخر الليل فكان الواحد منهم يحضر الرواية الواحدة للريحاني كل ليلة- لا حبا في الرواية نفسها التي سبق وشهدها عدة مرات - ولكن من أجل سيقان الفتيات..

ملحوظة من عندي « في الأفلام القديمة - كنا ننبهر بالراقصات والكومبارس من هؤلاء الوافدات.....»

....

و..... علي الرغم من قيمة ما صنعه «سيد درويش» لهذا المسرح الاستعراضي وموهبته في تصوير أهل الحرف والمهن إلا أنه لم يظفر وقتئذ بالتقدير والاحترام إلا عندما لحن روايات جدية مثل هدي - والعشرة الطيبة و«شهرزاد» وكانت تكتب قديما بالواو

......

و...... انتهي العام الدراسي وجاء الامتحان - ونقلت بقدرة قادر إلي السنة الرابعة النهائية ذهبت إلي منزلنا كي اقضي عطلة الصيف في منزلنا.. وما كدت أصل حتي كدت أصعق.. ما هذا الذي أراه أمامي... إنه ليس منزلاً - بل هو تركيب غريب لا أعرف له وجها من ظهر لقد أزيل جدا وأقيم آخر وخلع سلم وبرزت احشاء قاعة بغير حائط وأطيح برأس السطح و..... وعرفت السبب كان قد خطر ببال أهلي أن يجروا في المنزل اصلاحات وأن يزيدوا فيه طابقا

و... كان القطن في ذلك العام مرتفع السعر فاجتمع لهم مبلغ لا بأس به ولم يروا أن يسددوا به رهن الاطيان أو رهن المنزل ورأوا أن ينفقوه في تحسين المنزل ولست أدري من صا حب هذه الفكرة النيرة أهو والدى أم والدتي كل ما أدري أن أول ثغرة فتحتها «المعاول» في جدران هذا البيت لم يستطع كل مال الأرض لا مرتب والدي الكبير وقتئذ ولا الأموال التي اقترضوها من البنوك والمرابين أن تسد هذه «الثغرة» فقد أصبح البناء والهدم في منزلنا هذا شيئا طبيعيا مستمرا كالأكل والشرب.

خاصة أن والدي أراد أن يكون هو نفسه المهندس والمقاول وملاحظ العمال....

وصار يقول: شقوا هنا دهليزا أو أزيلوا من هناك جداراً وسدوا هنا شباكا وافتحوا هناك بابا - فما أن يفعلوا ما أمر به حتي يجد أن الباب بدلا من أن يفتح علي الردهة قد فتح علي المرحاض ويأمرهم من جديد بسد ما فتحوا وإقامة ما أزالوا

.......

كذلك وهو مصر كل الإصرار علي الاعتماد علي نفسه وخبرته والامتناع عن احضار مهندس.

وكنت أتأمل ما يجري من هدم وبناء فأقول له:

لماذا لا تحضر مهندسا يتولي ذلك لترتاح - فيجبني ساخراً: أنت عبيط! هل يحضر المهندسين إلا العبط؟ ما الذي يصنعه المهندس أكثر من أن يرسم علي ورق أزرق بضعة خطوط منمقة بالمسطرة والبرجل ليقول لنا هذه حجرة وهناك صالة و«يلطش» كذا جنيه لمثل هذا الكلام الفارغ.

وانتهي الأمر بنا بكل بساطة أن صار البناءون والمبيضون يقيمون لدينا إقامة مستمرة..

فاتخذوا لأنفسهم حجرة دائمة قرب باب الحديقة يقطنون بها ويأتي لزيارتهم فيها الأقارب والاصدقاء.

......

عزيزي القارئ

هذا البيت العجيب ومراحل هدمه وبنائه الأكثر غرابة سنعرضها في المقال القادم:

الحكيم... في بيت حجا