السبت 27 يوليو 2024

حذارِ.. من جوعي ومن غضبي!!!

مقالات22-2-2023 | 14:00

وليس هناك أشد إجراماً وجنايةً من جريمة «الفصل العنصري»، التي هي في الأساس توصيفٌ لجميع الأعمال غير الإنسانية التي تُرتكب بحق الأفراد والجماعات، هذه الممارسات يقوم بها أشخاصٌ ينتمون إلى فئةٍ عنصريةٍ تهدف إلي إنشاء سيطرتها وتحقيق هيمنتها على أية مجموعة عرقية أخرى أو أشخاص وقمعهم بشكل منهجيّ ، هذه الجرائم لا تسقط بالتقادم ....!! هكذا تقرر الجمعية العامة للأمم المتحدة ، وأرجوك عزيزي القارئ ألا تقهقه بصوتٍ عالٍ ، أو تنظر بطرف عينك ساخراً ، أو يبدر منك - ولو بإشارةٍ - ما يدل على عدم قناعتك بقدرة الأمم المتحدة على محاكمة مرتكبي هذي الجرائم ... فإن ذلك من قبيل الأفعال العدائية التي لا تتفق وتقاليدنا العربية...!!                                                                                                               

وكانت حكومة الأقلية البيضاء في جنوب أفريقيا من عام 1948 حتى عام 1990 آخر الأنظمة التي اتبعت هذه السياسة العنصرية المسماة بـ (الأبارتايد ) ، من خلال الفصل العنصري بين المستوطنين البيض الحكام  وبين السكان السود أصحاب الأرض الأصليين ، وتفضيل الإنسان الأبيض على الإنسان الأسود في جميع المجالات ، ليظل الصراع دائراً بقيادة (نيلسون مانديلا) ورجال حزب المؤتمر الوطني، ورغم سجنه الذي استمر لأكثر من سبعٍ وعشرين سنةً تحوّل خلالها إلى أيقونةٍ للحرية، ورمز دولي للكفاح ضد العنصرية، ومع تصاعد الضغوط الداخلية والدولية ترضخ حكومة جنوب أفريقيا وتطلق سراح مانديلا ليكون أول رئيسٍ أسود لجنوب أفريقيا، وينجح في إنهاء التمييز العنصري، ويحقق طموحه الذي عبَّر عنه في كتابه (رحلتي الطويلة في طريق الحرية): «عندما خرجت من السجن كانت مهمتي تتمثل في تحرير الظالم والمظلوم معا». 

لكن.. ما الذي جعلني أطيل الوقوف أمام جنوب أفريقيا ورمزها الأسمى ( مانديلا ) ؟!! أمران في غاية الأهمية : أولهما أن جريمة الفصل العنصري التي تنتهجها إسرائيل في حق الشعب الفلسطيني الآن هي ذات الجريمة التي مورست ضد السود في جنوب أفريقيا ... وإلا فما الهدف من جدار العار المسمى بالجدار العازل الذي تقيمه إسرائيل أمام العالم ...؟!! لكنَّ " المصيبة ليس في ظلم الأشرار بل في صمت الاخيار " هكذا أوجز المناضل (مارتن لوثر كينج ) الأمر دونما تزويق أو تجمُّل ، وثانيهما هذه الكلمات التي قالها يوماً نيلسون مانديلا : "نعلم جيداً أن حريتنا منقوصة من دون الحرية للفلسطينيين"  والتي تعكس تبنِّيه الواضح لقضية الشعب الفلسطيني.

وتظل قصيدة ( بطاقة هوية ) للشاعر العربي الكبير " محمود درويش الصرخة الكبري في مواجهة كل محاولات طمس الهوية ، حيث تبدأ بالمطلع الأشهر " سجِّلْ أنا عربيّ "ردًّا على كل مغتصب متشكِّكٍ يدَّعي حقوقاً، وعلى مساحة ستة مقاطع شعرية يؤرخ فيها تاريخه القديم : مكان وزمان مولده ومولد آبائه وأجداده  ... سجِّل أنا عربي ... ورقمُ بطاقتي خمسونَ ألفْ .... وأطفالي ثمانيةٌ وتاسعهُم.. سيأتي بعدَ صيفْ !.. فهلْ تغضبْ؟..مؤكداً أن القضية لن تموت ، بموت الآباء ، فالأبناء والأحفاد سلاحٌ في مواجهة كل محاولات المحو ، ولن تسقط الراية من أيديهم ، يبتدئ الشاعر كل مقاطع القصيدة بفعل الأمر "سجِّلْ " خاتماً بالاستفهام " فهل تغضبْ " وما بين فعل الأمر وبين الاستفهام وإصراره على الاحتماء بقوميته العربية ؛ فهي قضية كل عربي ، ونضاله المشروع يتوازي مع نضال العرب في سبيل تحقبق طموحاتهم ، يعرض أدلته المنطقية في أحقيته بأرضه وحقوقه السليبة وعدالة مطالبه ، باسطاً الواقع اليوميَّ الذي يعانيه كل فلسطيني في ظِلِّ الاحتلال ، ليأتي الختام متسقاً مع مشاعر الغضب الفوَّارة عند الأحرار في مواجهة السلب والتهجير.                                                    

إذنْ سجِّلْ برأسِ الصفحةِ الأولى أنا لا أكرهُ الناسَ ... ولا أسطو على أحدٍ  ولكنّي إذا ما جعتُ آكلُ لحمَ مغتصبي  حذارِ... حذارِ... من جوعي ... ومن غضبي..!!     ليقفز إلى سطح خاطري سؤالٌ ... أيمكن أن نجد من داخل المجتمع الإسرائيلي من يؤمن بقضيتك ويدافع عن حقوقك الشرعيَّة ...؟ !! أم أن حمائم الساسة الإسرائيلين مثل صقورهم ...؟!! أترك لفطنتك عزيزي القارئ الإجابة ...!!  لكن المدهش أنني أجد شاعرة من الأقلية البيضاء في جنوب أفريقيا كانت من أشد المناهضين لسياسة الفصل العنصري في بلادها ... إنها ( أنتجي كروج ) التي آمنت بحقوق الأغلبية السود ، وسخَّرتْ قلمها للدفاع عنهم ، فكرمتْها جامعات عديدة بالدكتوراة الفخريَّة ... وكانت قصيدة " أرضي الجميلة " الرائعة تحمل الأمل والبشرى ، وكأنها تنظر إلى غدٍ مُشرق ينتظر هذه البلاد بعدما يسود الحب بين عرقيات جنوب أفريقيا : حيث لا قيمة للون الإنسان إنما ما تحمله الروح ، وحيث التخلُّص من السياسيين المتطرفين ، وحيث يستمتع المحبون وتشاركهم الطبيعة عواطفهم الجيَّاشة ، وحيث يتشارك السود والبيض في بناء وطنهم بكل حبٍ وسلامٍ ... كل هذه الأحلام المشروعة التي تستشرفها الشاعرة قد أسَّستها على مطلع القصيدة المفعم بالبساطة والعمق ..." انظرْ ... أنا شيَّدتُ أرضي بنفسي " ... فإلي براح هذه النص الإنساني " أرضي الجميلة ":                                           

انظرْ ..... أنا شيَّدتُ أرضي بنفسي  حيث لون الجلْد ليس ذا شأنٍ ....فقط وسْم الذات الداخليّ !!!  حيث لا وجْهَ مستفزٍّ في البرلمان يستطيع إبقاء الأشياء بتطرُّفها الدائم !!!  حيث يمكنني أن أهيم بك ... وأستلقي بجانبك على العشْب دون قول " أريد ذلك !!                                                                                       

حيث نغني على الجيتار ... ونجلب هدايا من زهر الياسمين الأبيض !!!  حيث  البيض والسود يداً بيدٍ ... يستطيعون جلْبَ الحب والسلام إلى أرضي الجميلة !!!