كتبت- أماني محمد
صاحبة تاريخ كبير وطراز مميز شيدها أصحاب الخير في العصر المملوكي والعثماني، بشرط إطلاق اسم صاحبها عليها، إلا أن «الأسبلة» في مصر ضربها الإهمال من كل جانب وعصفت بها رياح التعديات رغم أهميتها الكبيرة وطرازها الفريد الذي يمكن الاستفادة منه في السياحة، ولكن في ظل استمرار الوضع الحالي فإن ذلك التراث سوف يندثر وينهار كليًا.
رغم صمودها خلال الحقب المتتابعة والمتغيرة إلا أنها بدأت في الانهيار أمام ضربات الإهمال والجهل، فلم يعد أحد يعرف قيمتها إلا أنها بناء قديم يعود لتاريخ ما أو عصر ما، وتحول عدد كبير منها إلى بيوت أشباح وخاوية على عروشها، ومجمع للنفايات والقمامة ومخلفات البشر، كما أصبحت جدرانها مجرد مكان لتعليق اللافتات الانتخابية والدعائية.
واحتضن العصر المملوكي والعُثماني، الأسبلة التي شيدت في كُل حي لري عطش الظمآن، ومدّ أهالي المنطقة من البُسطاء بالماء، نظرًا لعدم قُدرتهم على دفع الأموال لما يعرف بـ«السقا» الذي يوزع المياه على البيوت.
وكانَ الأُمراء والسلاطين يبحثون عن مجدٍ يرتبط بأسمائهم طوال الحياة، فكانَوا يأمرون بإنشاء الأسبلة، على شرط أنّ تحمل ألقابهم وأسمائهم.
بين الشهرة والتكفير
تنتشر تلك الأسبلة داخل الأحياء ذات الطابع التراثي القديم ما بين حي السيدة زينب الذي تحمل شوارعه حكايات الزمن القديم إلى الجمالية وأذقتها ودروبها الشهيرة وصولا إلى حي الخليفة الذي لا يختلف عن سابقيه في البيوت والمساجد والأماكن الأثرية، والغورية والدرب الأحمر وغيرها، حيث الأبنية ذات النقوش الإسلامية والزخارف التي لا تزال محفورة حتى اليوم.
ارتبط إنشاء الأسبلة بأعمال الخير والثواب والرغبة في تكفير الذنوب، ولم يقتصر وقفها على الأمراء والسلاطين والحكام فقط بل كان الأغنياء والقادرين أيضا يقيمونها كصدقات جارية لأنفسهم ولأقاربهم لتوفير المياه للمارة والفقراء والمسافرين، وكان عادة ما يلحق بالدور العلوي من السبيل "كتّاب" لتعليم القراءة والكتابة وتحفيظ القرآن الكريم.
وحمل كل وقف منهم اسم صاحبه، مثل محمد علي باشا أو عبد الرحمن كتخدا وخسروا باشا أو أقاربهم من زوجاتهم مثل نفيسة البيضا وأم عباس، أو أشخاص عاديين من الأعيان والأغنياء، وكان يقسم البناء إلى جزأين الأول تحت الأرض عبارة عن صهريج يخزن فيه المياه بعد نقلها من النيل أو بئر محفور، والجزء الثاني هو النوافذ والأحواض التي يتزود منه الناس بالمياه.
القمامة تحاصر سبيل «أم عباس»
سبيل "أم عباس" رغم كونه تحفة معمارية والأشهر في منطقة الخليفة إلا أن وضعه في انحدار وانتهاكات مستمرة، فقد تبدلت معالم السبيل التراثية فجدرانه لم تعد تحمل إلا التراب والملصقات واللافتات الدعائية لأحد مرشحي المنطقة، وهدم سوره الحديدي وتحولت الساحة المواجه لأبوابه إلى ملقى للقمامة والمخلفات والملابس القديمة والحيوانات النافقة.
أما عن السور المحيط به فقد أصبح ساحة لانتظار سيارات المقيمين في محيط السبيل وسط انتشار صناديق القمامة، وتحولت أضلعه الثمانية التي حملت آيات سورة الفتح كاملة وآيات قرآنية أخرى ذات صلة بوظيفته وهي سقاية الناس إلى كتل من الزخارف المهملة، أكوام من الأتربة أطفأت وهجه.
يعود تاريخ إنشاء السبيل إلى عام 1867م، حين قررت الأميرة بنبا قادن، والدة الخديوي عباس حلمي الأول وزوجة الأمير أحمد طوسون باشا إنشاؤه وحمله لاسمها بدلا من اسم زوجها، لتقدم فيه مياه مبردة بعد مرورها على رخام يخفض درجة حرارتها وكذلك محلاة بالزيوت العطرية إلى سكان القاهرة من الفقراء الذين لا يستطيعون تحمل أجرة السقايين الذين يصلون المياه إلى البيوت.
الباعة الجائلين تزبل ملامح سبيل «مصطفى خان»
في قلب ميدان السيدة زينب وعلى الجانب الآخر من المسجد الشهير، يقع مبنى يعرفه أهل الحي بالجمعية الخيرية إلا أنه في الأصل سبيل أثري يعود لأحد السلاطين العثمانيين إنه سبيل "مصطفى خان" أو "مصطفى الثالث" كما يطلق عليه البعض، بناء نصف دائري يطل على واجهة مسجد السيدة زينب وزقاق النبقة، والذي يعود تاريخ إنشاؤه ما بين عامي 1758م و1760م.
فهو يجمع بين التصميم المصري والعثماني استخدم في تزيينه من الداخل خزف هولندي، يجسد مشاهد طبيعية في هولندا لذلك لا يوجد واحدة من تلك الزخارف تشبه الأخرى حافظت على كثير من مظهرها الأصلي حتى اليوم، وكان به مدخلان منفصلان للدور الأرضي والعلوي، لكنه أغلق وبقي مدخل واحد، وعلى امتداد نحو قرنين ونصف من الزمان لم يستخدم كسبيل فقط بل استخدم كمنزل خاص حتى اتخذته جمعية خيرية مقرا لها.
وبعد أن أجرته "جمعية جماعة تلاوة القرآن الكريم" أصبحت تقدم فيه عدد من الخدمات منها فصول تعليم ومحو الأمية وتحفيظ القرآن ومساعدات مادية لنحو ألف أسرة بالسيدة زينب، أما عن الكتاب الموجود في الدور العلوي فهو مغلق.
أحمد.ع، أحد الباعة المتواجدين بمحيط السبيل قال:" إن داخله يوجد بئر لا تزال مياهه موجودة حتى اليوم رغم محاولات شفطها المستمرة وأنه مغطى الآن لكي لا يغرق به أحد، وبه أيضا زواحف وثعبان وفئران حسب تأكيده"، أما عن تواجد الباعة حوله، فيوضح أنه لا يؤذون المكان وليس أمامهم بديل آخر غيره حتى يروجون تجارتهم.
الانهيار يراود سبيل شارع النحاسين
في شارع النحاسين أحاطت القمامة بسبيل أثري يعود لشخص يسمى "حسين الشامي" ليصبح المكان الخيري مهددًا بالسقوط.
يعود السبيل لأحد كبار الشارع الذي يعيش به مطلع القرن الماضي وكان به كتاب إلا أنه أغلق خلال العقود الماضية بعد أن انتهى دور الكتاتيب في التعليم المصري.
وتوضح صباح.ح، أرملة ابن صاحب السبيل، أن البيت بالفعل مهدد بالانهيار وأن وزارة الآثار قد طلبت منهم إخلائه بسبب تردي حالته إلا أنهم رفضوا بسبب عدم وجود بديل لديهم، مؤكدة أن المكان بالنسبة لهم جيد لكن الأزمة التي تواجهها هي صوت الورش المحيط به، أما عن القمامة المنتشرة أمام الأثر فتقول إنها تعود لسلوكيات الناس ولا تستطيع منعهم.
سبيل «الست» المجهولة
على بعد خطوات من مسجد وقسم السيدة زينب في شارع بورسعيد يبقى الأثر والذي يحمل رقم 313 شاهدا على تغير الزمان والمكان، فقد طمس الإهمال بعض زخارفه بفعل غياب الترميم، وباتت جدرانه ملصقا للدعاية الترويجية المختلفة، كما حملت أيضا كتابات بعض الشباب على عموده وحوائطه، فضلا عن تهشيم زجاج أحد نوافذه.
ويعود تاريخ المكان للقرن الـ18 ميلادي وكان مكانه الأصلي في درب الجماميز حين كان شارع بورسعيد يسمى بالخليج المصري وكان أحد فروع نهر النيل وبعد أن ردم الفرع أصبحت عددا من المباني في منتصف الطريق تعيق حركة السير كان منها السبيل فتم فكه وإعادته تركيبه في مكانه الحالي بالسيدة زينب.
ورغم أنه ينتمي للعصر العثماني إلا أن طرازه مملوكي وهو ثاني أقدم سبيل تقوم ببنائه امرأة عام 1741م ويسبقه سبيل وقف كلسن هانم، وكعادة الأسبلة الأثرية فملحق بالدور الثاني منه كتاب لتعليم الصغار، ولا يعرف من هي الست صالحة الحسناء صاحبة الأثر فلم تسجل في المكان أي معلومات عنها.
دراسة لإعادة استخدامها
وعن فكرة إعادة استخدام الأسبلة الأثرية مرة أخرى بشكل جديد، قال خالد عطية، مفتش الآثار بالإدارة العامة للحفائر، إن الأمر يحتاج لضوابط ودراسة مستفيضة، لأنها بنيت من الحجر الجيري وتتأثر بالمياه الجوفية فحالتها تحتاج لترميم وستتضرر إذا أعيد استخدامها بشكل واسع أو تطويرها كهيئة تراثية أو ثقافية على غرار البيوت الثقافية الأخرى.
وأوضح أنه لا يوجد حصر بأعداد الأسبلة الأثرية في القاهرة بسبب كثرتها، وأن جميعها تنتمي للعصرين المملوكي والعثماني، مضيفا أن أول سبيل أثري هو "خسروا باشا" الموجود في شارع المعز حاليا، والذي بني على الطراز المملوكي، وكان يوجد منها نوعان إما للدواب وخاصة في الطرق الصحراوية وإما للأشخاص.
أزمة مواطنين
بينما يرى الدكتور جمال عبد الرحيم، أستاذ الآثار الإسلامية بكلية الآثار، أن أزمة الأسبلة الأثرية تكمن في تعامل المواطنين وليس الدولة أو الوزارة، لأن المواطنين المحيطين بالبناء نفسه هم منْ يشوهونه.
وأضاف أن المشكلة في الناس والمحافظة والحي وليس في الدولة لأنه يوجد أسبلة عديدة وضعها من حيث النظافة والاهتمام جيد، ورغم أن سبيل "أم عباس" على سبيل المثال سيء المظهر لكن حالته المعمارية والأثرية جيدة جدا".
ولفت إلى أن إهمال الناس هو السبب فيما آلت إليه أوضاع عدد من الأسبلة لأن معظمها في حالة بنائية ممتازة وبعضها يحتاج بالفعل لترميم لكن هناك أولويات لا بد منها، يوجد على رأس القائمة المساجد الأثرية المهملة والمغلقة منذ سنوات طويلة، الموجودة في السروجية والخيامية والمغربلين والسيوفية والخليفة.
وقال أستاذ الآثار الإسلامية، إن الأزمة في الاهتمام بتلك الأماكن الأثرية مادية بحتة فتتضرر السياحة أثر على الآثار لأنها كانت مصدر الدخل الرئيس لها، لافتًا إلى أن الأزمة ليست في وعي المواطنين لأنهم يعرفون قيمة الأثر، لكن الجشع هو ما يجعلهم يستغلونه، البشر هم ما يحتاجون للترميم أكثر من الأثر".