الثلاثاء 21 مايو 2024

سفيرة من محراب الفن

29-8-2017 | 11:56

بقلم : د. رانيا يحيى - عضو المجلس القومى للمرأة

مدرسة فى الغناء تفردت وأجادت، ليس لها مثيل ولم تتشبه بغيرها ممن سبقوها مهما بلغت شهرتهم أو نجاحاتهم، بل سارت على نهج التميز وفرض أسلوب فنى جديد تمسح فى ثوبه البعض لينال حظا أوفر من النجاح، لكنها تظل المتربعة على عرش الغناء العربى بجانب الراحلة كوكب الشرق أم كلثوم إنها السيدة فيروز، ورغم الفوارق فى خامة الصوت وطريقة الأداء وحتى طبيعة الألحان لكنهما يظلان اسمين فريدين حفرا كل خطوة من مشوار النجاح بعبقرية وإبداع ليس لهما مثيل.

غالباً ما تتطابق الشخصية الإنسانية مع اختياراتها الإبداعية التى تترجم صدق المكنون الداخلى، فكلما زاد الإبداع يبرهن على تفرد الشخصية ورقيها الأخلاقى وسموها الإنسانى, فقد استطاعت أن تضع هالة للحالة الغنائية, ففى صوتها الملائكى صلاة تجمع بين قدسية الفريضة وحلاوة الإيمان وملائكية الترتيل بالألحان والإيقاعات المختارة بعناية والتى لعبت دوراً كبيراً فى جماهيرية أغنيات السيدة فيروز فجعلتها قريبة للأذن، ورغم اعتماد عدد ليس بقليل من أغنياتها على المقامات البعيدة عن الشرقية الصميمة ذات ثلاثة أرباع النغمة والآلات الغربية إلا أن هذه العوامل تضافرت لإضفاء ألوان صوتية مميزة صبغت أعمالها ببريق خاطف, كما أن تنوع موضوعات الفيروزيات ما بين الاجتماعى والعاطفى والوطنى والسياسى المترجم لقضايا تاريخية جعل من هذه الإبداعات لوحات سمعية فى عالم الموسيقى والغناء تحوى الموشح والطقطوقة والقصيدة والأغنية الحديثة بثورة فى عالم الغناء مزجت بين القديم والحديث بما قدمته من نتاج فنى واكب العصر, بجانب احتفاظها بالمضامين الثرية الرصينة، فتحققت المعادلة الصعبة ما بين الأصالة والمعاصرة، لهذا استحقت أن تتوج كملكة للغناء الراقى فى قلوب محبيها وعشاقها من جميع الطوائف والفئات العمرية, ورغم الموهبة الفذة والصوت الملائكى النادر إلا أننى أعتقد أن وجود الرحبانية كان له الفضل الكبير فى وصول فيروز لقمة المجد الفنى، كما أنها أضافت الكثير من الشهرة والانتشار للعائلة الرحبانية.

تعد فيروز ملحمة غنائية امتلكت إمكانيات صوتية هائلة جعلتها تسبح فى السموات العلا بطاقة وانطلاقة غير مسبوقة من منطقة القرار وحتى أعلى الجواب وما بينهما حين تتراقص بطبقاتها الصوتية وتداعب ملائكية صوتها الساحر بسكينة تروى الأعماق الظامئة حباً ولوعة واشتياقاً سابحة فوق هامات الطرب مخاطبة الإنسانية جمعاء, ورغم لهجتها اللبنانية المرتبطة بأهل الشام وقد تصعب على بلدان أخرى ناطقة بالعربية كلهجتنا التى تخاطب العالم العربى بمنتهى الوضوح والسلاسة ويفهمها الجميع, إلا أن حلاوة صوتها وطلاوته بجانب الألحان الرائعة التى تجلت عبر عقود ممتدة من عطائها الفنى من أهم عوامل التقارب والانسجام التى كسرت هذا الحاجز وجعلته أسيراً فى بوتقة الكلمة ولا يمتد للتذوق الجمالى للعمل الإبداعى، فلم نشعر بغربة فى دفء صوتها وفيض مشاعرها التى حملت هم الوطن بحلم العروبة المشترك والمتراجع فى ظل الوهن المسيطر يجعلنا لا نفرق بين جنسياتنا, فكلنا داخل قوس قزح واحد بأطياف متنوعة ذات ألوان زاهية تتماهى جميعها لإسعاد عموم البشر بفنوننا الراقية فى مشارق الأرض ومغاربها, كما ارتقت بحال الإنسان العربى وبلذاته الحسية فى حالة من السمو الأخلاقى والروحى بصوت السماء الذى رغم ما تقدم من العمر إلا أنه يزداد نضارة وعمقاً وكأنها الضمير الحانى على الأمة العربية، فهى خير سفيرة لبلدها وللمرأة العربية التى حطمت الحدود والحواجز برسائلها الفنية الممتد عبر مشوارها الطويل، وفيروز الثمانينيات لازالت تبعث رسائل الحب والحرية والإيمان بتراتيل المحبة والسلام بآخر إبداعاتها "ببالى" والذى نأمله إضافة لهذا الرصيد الفنى الزاخر والعريق.