قد يكون عنوان المقال ضد الحكمة التقليدية التي تقول إن المعرفة والأفكار والذكاء هم مفاتيح خلق الثروات، لكن الحقيقة التي يجب أن يعرفها الجميع، أن هناك علما ظهر في تسعينيات القرن الماضي اسمه "علم صناعة الجهل"، بعدما لاحظ باحث يدعى روبرت بروكتر من جامعة ستانفورد دعايا شركات السجائر التي تهدف إلى تجهيل الناس حول مخاطر التدخين بهدف دعم انشار منتجاتها من السجائر، وبالتالي زيادة أرباحها.
ففي وثيقة داخلية تم نشرها من أرشيف إحدى شركات السجائر الشهيرة، تبيّن أن شركات السجائر قامت بعمل عدة استراتيجيات لنشر الجهل، منها علي سبيل المثال لا الحصر، إثارة الشكوك في البحوث العلمية التي تربط التدخين بالسرطان، وتقديم تمويلات وعمل منح بحثية موجه لإثبات أن التدخين ليس المسبب الرئيسي للسرطان، ودعم الأفلام والمسلسلات والإعلانات التي تروج أن التدخين جزء من الحرية والجرأة والانطلاق والسعادة!
وبالفعل استطاعت شركات السجائر أن تضلل المجتمعات في كل دول العالم، وأن تعمل على تجهيل الناس حول مخاطر التدخين وتحقق أرباح عالية. الآن بعد مرور زمن كبير وإثبات فعالية التكتيكات التي قامت بها شركات السجائر لتجهيل الكثيرين عن مخاطر التدخين وجني أرباح كثيرة من وراء ذلك، قامت العديد من الشركات الأخرى بمحاولة تقليد هذه التكتيكات في تضليل المستهلكين لجني أرباح أكثر، بل واستخدمت تكتيكات صناعة الجهل في السياسة لتحقيق مصالح سياسية لمن يستخدمها، وألهمت الأوساط الأكاديمية فكرة بحوث جديدة لاستكشاف الكيفية التي تم بها إنجاز هذه الخدعة، ومنها تولد علم "صناعة الجهل". وهنا لا أتكلم عن الجهل الذي يضاد المعرفة، وإنما الجهل الذي يصنع صناعة!!
إن الجهل اليوم أصبح منتجا وله زبائنه، ويقود خلقه وتطويره شركات ومؤسسات تجارية وسياسية، بل ودول تضع الملايين لصناعته بجودة عالية. لأن في تجهيل وتضليل الجمهور والرأي العام، سوف يحصلون على المليارات من الدولارات، لأن العوائد التي يحصلوا عليها من انتشار الجهل تجاه أمر ما هم خططوا له سوف يدر عليهم أكثر مئات المرات من المليارات التي يصرفونها لصناعة هذا الجهل. إن ما يساعد انتشار الجهل في مجتمع ما هو أولاً: أن يكون أكثر هذا المجتمع لا يدرك الحقيقية ولا يريد أن يبحث عنها. وثانيا: عندما تكون هناك جماعات المصالح الخاصة مثل شركة تجارية أو جماعة سياسية، التي تقوم بالعمل الجاد لخلق الجهل والتضليل والارباك والتشكيك في المجتمع تجاه امر ما. وعندما يصنع الجهل داخل المجتمع، يتحول المجتمع الي مجتمع متدهور ومتهالك، لا يعرف الحق من الباطل، ولا الصواب من الخطأ، بل ويتحول معظم من في هذا المجتمع الي مستهلكين وعالة، بل ومدمرين لأي شخص منتج، لأنه يكشف لهم أنهم يعيشون في مستنقع من الجهل والتضليل.
وهناك ثلاث طرق أساسية لصناعة الجهل حسب أساسيات علم الجهل، أولا: بث الخوف لدى المستهدفين، ثانيا: إثارة الشكوك، ثلاثا: صناعة الحيرة. أعتقد إننا نعيش هذه المراحل الثلاثة الآن من جهات ومؤسسات كثيرة حولنا تحاول نشر الجهل والتخلف في دولنا. وهذا بالإضافة إلى أدوات أخرى مساعدة لضمان أن يكون منتج الجهل ذو كفاءة عالية لتحقيق الأهداف المرجوة منه مثل: إلغاء فكرة الانتماء والمواطنة لخلق مسخ بلا انتماء. ولضمان نشر الجهل بين أطياف أي مجتمع، انبثقت في بداية صناعة الجهل الحاجة لمجال الإعلام المضلل، فعن طريق وسائل الاعلام تتم تضليل الرأي العام والزج به في أي اتجاه، وكذلك يمكن عن طريق الإعلام أن تزيف وعي الناس وأن تتحكم في مشاعرهم وانفعالاتهم تجاه أي أمر، ومع العصر الرقمي ظهرت أداة أقوى من الإعلام المضلل، أداة يمكنك بها أن تظل على تواصل على مدار اليوم مع الفريسة وتبث سموم التضليل والجهل، وبالتالي لن يكون لديهم أي فرصة أن يفكروا فيما يبث في عقولهم، وذلك من خلال وسائل التواصل الاجتماعي مثل: تويتر، وفيسبوك، وإنستجرام وغيرها.
ولو فكرت للحظة ونظرت حولك بحيادية سوف ترى أن هناك شواهد وأمثلة على أننا كل لحظة ندفع دفعا إلى أن نكون مدمنين على منتجات أو خدمات أو أفكار حتى ولو كانت مهلكة وقاتلة لنا حتى ولو وصل مستوى التجهيل أن ندخن لنكون متحضرين أو نشرب مشروبات الطاقة المدمرة على أنها مشروبات الصحة والراحة أو نأكل المأكولات السريعة رغم خطورتها وآثارها الصحّية المدمّرة أو نشجع الشذوذ الفكري والجنسي على اعتبار أنه حرية شخصية!
وأيضا سوف نرى كيف أن بعض المنظمات ورجال السياسة وأصحاب المصالح يدعمون مبدأ إثارة الرعب لدى المواطنين لتمرير مصالحهم وأجندتهم. مثلا مثل صنع أعداء وهميين لتحشيد الرأي العام تجاه أمر خفي ما ينون القيام به، مثلما حدث في الولايات المتحدة لتمرير غزو العراق، أو يتعمدون نشر السلبيات وتشويه أي خبر إيجابي، ليبقى الطرف المستهدف مدمر نفسيا ولا يجد أي أمل، وبالتالي أي شيء يطرح له فيه شكل من أشكال التنفيس أو الهروب سوف يكون لها بمثابة طوق نجاة حتى لو كان ما وراءه هلاك أو أن يتم نشر معلومات كثيرة ومتضاربة ليصعب علي الفرد اتخاذ القرار المناسب، ويدخل في دوّامة من الحيرة ويصبح تائها وجاهلا حول ما يجري، ويزيد العبء النفسي والذهني عليه، فيلوذ بقبول ما لا ينبغي القبول به، طمعا في النجاة من هذه الدوامة، وهذه تحديدا هي الغاية من صناعة الجهل!
ا.د. غادة عامر
عميد كلية الهندسة والتكنولوجيا – جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا
زميل ومحاضر كلية الدفاع الوطني - أكاديمية ناصر العسكرية