السبت 4 مايو 2024

«بيرم التونسي».. فنان الشعب


د. محمود خليل

مقالات7-3-2023 | 13:19

د. محمود خليل

ربما لا تقل خطورة الدور الذي لعبه محمود بيرم التونسي فنان الشعب ،عن الدور الذي لعبه  الزعيم التونسي عبد العزيز الثعالبي ، أو الدور الذي لعبه سماحة شيخ الأزهر الشيخ محمد الخضر حسين التونسى،أو الدور الذي لعبه قديما إبن خلدون أو حديثا أبو القاسم الشابي  التوانسة المصلحون
• ذلك أن محمود بيرم التونسي كان أكبر من كونه شاعرا أو زجا لا أو كاتبا للأغاني ،٠٠٠حيث كان الرجل قطعة حية من المشاغبة والاشتباك  والثورة علي كل عوج ،في كل شأن اجتماعي دارت خلاله حياة الناس في تلك الفترة٠٠ رئاسة و مرؤوسين ،٠٠حكاما ومحكومين
• كذلك كان الرجل صاحب رؤية فنية اصلاحية ،على كل مستويات الدوائر الاجتماعية التي تناولها٠٠٠ فتكلم في الحكم، والعدالة ، والنظام ، والنظام ، والنظافة ، والسلووالجوار ، والجوار، والآداب العامة والخاصة ، والتربية والتعليم ،  والتجارة ، والصناعة ، والصحافة ، والسياحة ، والنقد الاجتماعي ، والبناء السياسي ،
• لم يترك محمود بيرم التونسي شيئا إلا وكان فيه له لذعة ، ولديه لوعة ، ومنه قطعة تملؤها الجماليات والروعة 
• محمود ابن محمد ابن مصطفى ابن بيرم الحريري الشهير  ببيرم التونسي المولود في( 23مارس1٨٩٣م -٥يناير ١٩٦١) شهرته التي طبقت الآفاق
• بيرم التونسي ذلك الغلام المولود لجد تونسي من سلالة جارية أهديت إليه من الحاكم التركي ، سقط على أرض الواقع في حي الأنفوشي بالإسكندرية في شارع البوريني ، ٠٠له أخت واحدة من والده تكبره بعشرين ، ٠٠ جرب كل الحرف ٠٠وتبهدل في كل الأعمال ، وكانت النتيجة التي يتحصل عليها دائما ٠٠الخسارة والفشل ٠٠بل والبوار والضياع في الطرقات ، حتى عندما دخل الكتاب وهو إبن أربع سنوات ، كان حظه الضرب المروع ، ففر من الكتاب ، فأجبر  على دخول المعهد الديني،بالسكندرية، فلم يكن له نصيب إلا فتات العلم في سنوات قلائل ٠٠ذلك أنه كانت تلتصق المشاكل في أقدامه ، وتتساقط على رأسه ، ٠٠ حتى عندما فر من التعليم  الي التجارات الصغيرة  التي جرب حظه فيها ، داهمه ذلك الجبار الظلوم الغشوم ٠٠المسمي ب(المجلس البلدي)  فاتي على تجارته من القواعد،حتي أغلق ابوابها ، فانفجر بقارعة النقد الاجتماعي ،٠٠ لاعنا خاش أهل ذلك (المجلس البلدي)  الذي دمر تلك التجارة الضيقة في (السمن ) ٠٠إحدى بضاعات الأزمة في تلك الفترة ، حيث كان كل موظفي ، المجلس البلدي من الاجانب
• ٠٠ فأغلق الرجل الدكان ، وخسر الذي كان  ٠٠     
وكانت الشرارة الأولى لقنبلة النقد الاجتماعي التي ألقاها بيرم التونسي في الشارع السياسي في ذلك الحين 
 قد أوقع القلب في الأحزان والكمد هوى حبيب يسمى المجلس البلدي
 إلى أن ينتهي بيرم إلى قوله:
 يابائع  الفجل بالمليم واحدة كم للعيال وكم للمجلس البلدي
 ذلك المجلس البلدي ،إحدى دوائر مجمع الظلم في تلك الفترة، يمارس على الناس الضرائب ، ويجلب عليهم المصائب ، حتى يغلق الأبواب ، ويعلن الناس الإفلاس
 جرب بيرم حظه في عدة ميادين ، ولما ضاقت به الأحوال ، انفجر في الشارع السياسي ، لاعنا أعلى رأس في البلد،  بقصيدته الشهيرة جدا (البامية الملوكي والقرع السلطاني)٠٠ التي طعن بها طعنا مبرحا جارحا في  عرض الملك ، فأصدر الملك فؤاد أمرا فوريا  بنفيه خارج البلاد،  فتم رميه إلى تونس التي أتى أجداده منها،  واستمرت هذه البهدلة، ما بين تونس و فرنسا والتسلل إلى القاهرة ١٨عاما٠٠ ذاق بيرم خلالها المذلة والفقر والمرض، الي ان  توسط الفنان النبيل سليمان نجيب مدير الأوبرا الملكية ، لدى الملك فاروق ، فأمر بعودته إلى مصر قابلا الشفاعة,
، وعاد بيرم الي مصر في 8-4-19٣٨ بعد وفاة الملك فؤاد ، شريطة أن يمدح الملك فاروق مدحة مدوية ، وأن يلحس كل ما قاله في حق والده ، ( وأن يبدي الندم ويبوس القدم)
 صنع ذلك بيرم ،من تحت ضروسع ٠٠وقال ما قاله في الملك فاروق
وهومالا يصح أخذه عليه كذلة في كل وقت وحين ، فقد قاله وهو يكفر بكل حرف فيه، ٠٠ فمنذ متى وبيرم التونسي يقول للملك فاروق (وهات ترابك أبوسه)
 ومنذ متى  وبيرم التونسي يقول أنه ذليل ونادم على ما قال ، 
لو كان يعي أنه سيقول ذلك ما قال قديما 
 بذلنا ولسة بنبذل نفوس
 وقلنا ع سى الله يزول الكابوس
 ما شفنا إللي عرشك ياتيس التيوس
 لامصر استقلت ولا يحزنون
 ولما عدمنا بمصر الملوك 
جابوك الإنكليز يافؤاد قعدوك
 تمثل على العرش دور الملوك وفين يلقوا سافل نظيرك ودون
 عاد بيرم إلي مصر ٠٠ولم تمر  شهور قلائل حتى دوى اسم بيرم التونسي كشاعر غنائي كبير، بعد أن التقى بأم كلثوم عام 1940 و وابدع لها أغانيه ، حيث كتب لها أكثر من 20 أغنية أشهرها (أنا في انتظارك ، الٱهات ، أهل الهوى ، شمس الأصيل ، الحب كده ، هو صحيح الهوى غلاب ، القلب يعشق كل جميل )
 ثم جاءت ثورة 23 يوليو 1952 فأصبح بيرم  أحد أشهر أصواتها  ومنشديها ، وأشهر شعرائها ومروجيها،٠٠ لكنه أيضا لم يمسك لسانه عن نقدها بشدة  في ذلك الزجل الشهير الذي بدأه بقوله: (سبقني الباقوري وقال مش ضروري )٠٠إلى آخر ماقال!!
التي ذكرت الناس بما قاله قديما:
 أمشي وأكتم أنفاسي مخافة أن يعدها عامل للمجلس البلدي 
ما شرد النوم عن جفني القريح سوي
  طيف الخيال خيال المجلس البلدي
 إذا الرغيف أتى فالنص أكله والنص أتركه للمجلس البلدي
 وإن جلست فجيبي لست أتركه خوف اللصوص وخوف المجلس البلدي 
 وما كسوت عيالي في الشتاء ولا في الصيف الا كسوت المجلس البلدي
 كأن أمي بل الله تربتها
 أوصت فقالت: أخوك المجلس البلدي
 أخشى الزواج إذا يوم الزفاف أتى أن ينبري لعروسي المجلس البلدي
 وربما وهب الرحمن لي ولدا 
في بطنها يدعيه المجلس البلدي
 وإن أقمت صلاتي قلت مفتتحا 
الله أكبر بسم المجلس البلدي
 أستغفر الله حتى في الصلاة غدت عبادتي نصفها للمجلس البلدي 
يا بائع  الفجل بالمليم واحدة 
كم للعيال وكم للمجلس البلدي 
 أيضا جرب بيرم حظه  كصحفي٠٠ ذلك الدور الذي انتهت به حياته كمحرر شهير بجريدة الجمهورية ، صوت ثورة 23 يوليو٠٠ لكنه كان  كلما أنشأ جريدة أغلقوها ، وكلما أنشأ صحيفة صادروها  ٠ بتفصيل قانون مصادرة الصحف والمجلات التي كانت تصنع خصيصا من أجله ،
 حتى  عندما ذهب إلى تونس طاردته حرفة الأدب ولعنة المنفى فكتب :
الأوله آه ٠٠والثانية آه ٠٠والثالثة آه 
الأوله آه قالو تونسي ونفوني جزاة الخير وأحساني 
والثانية تونس وفيها الأهل  جحدوني وحتى الغير مصافاني
 والثالثة  باريس وفي باريس  جهلوني وأنا موليير في زماني
 باريس التي ذهب إليها بعد فترة التيه والاستنكار التونسية ،ف ففجرت أوجاعه، حيث  كان يعمل بها شيالا للبراميل ٠٠ينام وسط الشحم والدخان ٠٠وهو الذي يعاني من الربو الشعبي ،٠٠ هانت عليه نفسه كتب:
 حتجن يا ريت ياخوانا مارحتش لندن ولا باريز
 دي بلاد تمدين ونضافة وذوق ولطافة وحاجة تغيظ
ذلك المونولوج الذي كان يتغنى به الشيخ زكريا أحمد بصورة مضحكة مبكية معا ،٠٠وفي باريس أيضا كتب مسرحيته الشهيرة (السيد ومراته في فرنسا) 
   انخرط بيرم بكليته ،ليكون صوتا شعريا شعبيا للثورة عسي ان يصلح العطار ماأفسد الدهر٠٠ 
ورغم ذلك لم يغمض عينيه عن كل ميادين النقد الاجتماعي ، التي كان يلهب بها ظهور الناس في كل ما يتعلق  بمعايشهم ، من الحركة في الشارع ، إلى النظافة ,،إلي الزواج ، إلى الطلاق ، إلى عمل النصابين ، إلى عمل الدجالين ، إلى عمل الساسة الجائرين ، إلى الصحافة ، الي لصحفيين المنافقين إلى التجار الجشعين،  إلى النساء اللاتي لا يقومن بأدوارهن ، إلى الرجال الغافلين ، إلى الشباب المتفسخ  في اللبس  والحركة، إلى الأولاد المتر سلين في التدني، 
 لم يترك صغيرة ولا كبيرة إلا نالتها سياطه ،باعتبارهةشاعرا محتسبا باسم الشعب بخصوص كل مايمس مصالح الشعب ،  
وعاش كدفتر أحوال للنقد الاجتماعي على مدى عمره كله، منذ بدأ ينظم هو ابن الثالثة عشرة،  إلى أن نقي ربه ٠٠حتى إن البعض يقول إن بيرم كان شاعرا (لسانه متبري منه)
 ولم يكن أمير الشعراء أحمد شوقي يعمل حسابا لجلال الفصحى إلا من بيرم فنان الشعب ، حيث كان يقول أحمد شوقي : (كلا أخشى على الفصحى إلا من ذلك الرجل)
 وهناك طرفة  جديرة بالذكر٠٠لما طلب من أحمد شوقي أن ينزل إلى مستوى الشعب ، وأن يكتب أغاني بالعامية ، فكتب أغنيته الشهيرة لعبد الوهاب( بلبل حيران على الغصون شقي معنى)
 هذا الكلام الجاف ، الذي لا هو بالشعر الفصيح ، ولا هو بالعامية السلسة ٠٠أرسل إليه بيرم برقية مزعجة جدا الي امير الشعراء تقول :
يا أمير الشعر غيرك 
في الزجل يبقى أميرك 
ومن الطرائف التي حدثني شخصيا بها عميد الزجالين السابق محمد عبد المنعم أبو بثينة يقول :
 لما بويع زوج أمي حسين شفيق المصري أمير الشعر الحلمنتيشي والزجل دون منازع ، كتب بيرم بطول لسانه المعروف ، قصيدة نقدية منها قوله :
باريس خلاص اصبحت خاربة
 اللقمة فيها بمضاربة 
وأناس ارتميت وسط مغاربة
 الكرب والغرب قتلها 
إلى أن قال:
 والفن بايظه باينة 
خراب ما يحتاج لمعاينة
 أمير جوز ام بثينة 
وأنا الرعية مع عيالها 
حتى إنه كتب  في هذه القصيدة ، ما يشبه عربون التصالح مع الملك ، إلا أن الرسالة لم تصل ، لما قال:
 يا مصر هجرك يكفاني 
يا عاملة قمع ونسياني 
إلى أن قال:
 أنا إللي ضليت في جهادي
 و غشني سحر الوادي 
حدفت للنيل اولادي 
من بعد ما عمرو دخلها 
بيرم التونسي كان فنان الشعب بكل معنى الكلمة٠٠ فلم يترك أحدا في حاله ، حتى كان يقول :
 يا شرق فيك جو منور والفكر ضلام 
وفيك حرارة يا خسارة وبرود أجسام
فيك سبعميت مليون زلمة لكن أغنام
 لا بالمسيح يعرفو مقامهم ولا بالإسلام 
وعندما كان يتعرض للنقد الاجتماعي، كان لايتهيب أحدا٠٠ بل ويتجاوز بعض المقامات  والحدود بشكل مفزع ٠٠كما صنع مع شيخ الإسلام العلامة الشيخ محمد بخيت المطيعي عندما قال :
يا بخيت يا بدومة  
لاديك بالشومة
 إلى آخر ما قال ، مما يجعلنا نقول : ان بيرم التونسى قد تغلغل في أعماق الشعب ، وأصبح صوت الشعب ، ولسان الشعب،  وكما قلنا في صدر المقال:
 إن الدور الاجتماعي الذي لعبه بيرم ،  لا يقل أبدا عن الدور الذي لعبه أي واحد من التوانسة المصلحين، قدموا إلى مصر ، فوسعتهم مدارا وديارا ٠٠ وادبا وفنا واشعارا
فمنحتهم من روحها وريحانها
فتم منحوبيرم التونسي الجنسية المصرية عام ١٩٥٤م 
و انتقل شاعر الشعب المشاغب ، إلى رحمة الله  تعالى في 5-1-1961م
 رحمة الله على الناقد الاجتماعي اللاذع ، بيرم التونسي، ثائرا ساخرا ورحمة الله على بيرم صوت الشعب، ورحمة الله ورسوله
مدونا  أنصع  صفحات الإصلاح والتغيير والتوظيف الاجتماعي للشعر والفن والادب الرسالي الجميل 
 

Dr.Randa
Dr.Radwa