الثلاثاء 18 يونيو 2024

سقوط.. انكسار.. تمرد.. وجرى وراء السراب نساء نجيب

30-8-2017 | 18:00

بقلم –  شيرين صبحى

كانت «حميدة» بطلة رواية «زقاق المدق»، مريضة بحب الجاه والثروة، حتى إن «الشغف بالقوة لغريزة جائعة فى باطنها، فهل يتاح لها الشفاء أو الارتواء إلا بالثروة؟ لم تكن تدرى دواء لهذا التشوق الأليم يضطرم فى أعماقها إلا الثراء الكبير، فهو الجاه العريض، وهو القوة الشاملة، وهو بالتالى السعادة الكاملة. وإذ عرفت أن السيد علوان يرغبها زوجة.. كانت فى سرورها المباغت كمحارب أعزل عثرت يده بسلاح مصادفة فى أشد المواقف حرجا.. كانت كطائر مقصوص الجناحين يسف فى يأس و قنوط على الرغم محاولاته الفاشلة ، ثم ينبت له ريش بمعجزة تدق على الأفهام، يحلق به إلى قمم الجبال».

«حميدة» فتاة جميلة فى ريعان الشباب، تكفلت بها صديقة والدتها بائعة «المفتقة». كبرت فى الزقاق الذى تملؤه القذارة فظلت تشعر بالنقمة على حياتها، فكانت ترى جمالها خليقا بأن يجعلها «هانم» ترتدى الملابس الثمينة وتعيش فى السرايات.

كانت حدود الزقاق تضيق على أحلام «حميدة»، التى ظلت تسعى للخروج من هذا المكان الضيق غير اللائق بجمالها؛ بحثا عن عالم المال والثراء.

تبحث عن منقذ ينتشلها من الفقر، فتجد مخرجها بادئ الأمر فى عباس الحلو، الشاب البسيط صاحب صالون حلاقة. فتقبل خطبته وتدفعه إلى الالتحاق بمعسكر الإنجليز، بحثا عن عمل أفضل للوصول إلى قلبها.

لكن حميدة المتمردة لم تقتنع بتلك المحاولات، وبدأت فى البحث عن الرجل الذى يوفر لها الحياة الرغدة، فيقودها المصير إلى «فرج» القواد الذى يلقى بها وسط أقدام جنود الاحتلال، فتحصد المال ثمنًا لجسدها، وتغير اسمها لتصبح «تيتى».

قدم البراءة

هل ستظل تلك الفتاة الجميلة البريئة «إحسان شحاتة» بطلة رواية «القاهرة الجديدة» ترفل فى ثوب العفة والنقاء؟ أم ستزل قدمها لتصبح مثل والدتها العاهرة ووالدها القواد؟

كانت إحسان تلميذة فى معهد التربية، التحقت بالجامعة ضمن «دفعة أولى من الجنس اللطيف»، وأحبت الشاب الاشتراكى «على طه»، لكن فقرها الشديد وضغوط أسرتها جعلتها تلبى رغبات «قاسم بك فهمى»، أحد أبناء الطبقة الارستقراطية الذى اتخذها عشيقة.

تحمل «إحسان» فيقرر عشيقها تزويجها من سكرتيره «محجوب عبد الدايم» مقابل وظيفة فى الدرجة السادسة لها مستقبل مضمون. تفاجأ «إحسان» بمحجوب الذى كان زميلا لحبيبها القديم.. «كانت تريد أن تسدل على الماضى ستارا كثيفا، وأن تفر منه إلى الأبد، فرمى بها الحظ بين يدى واحد من صميم ذاك الماضى، وكأنه -الحظ- لم يشبع بها تنكيلا».

ومن القاهرة الجديدة يأخذنا محفوظ إلى الإسكندرية فى روايته «ميرامار»، داخل ذلك البنسيون الذى يجمع العديد من النزلاء مختلفى الأهواء السياسية والاجتماعية؛ تستمع «زهرة» إلى آراء مختلفة وتحاول أن تفهم وتتعلم القراءة والكتابة أما «زهرة» تلك الفتاة الريفية التى هربت من أسرتها بعدما أرادت تزويجها من رجل عجوز؛ فهى الشخصية التى يحاول الجميع التقرب إليها، لكنها ترفضهم وتحاول أن تتعلم القراءة والكتابة.

يستطيع سرحان البحيرى الشخص الانتهازى خداع «زهرة» حتى تقع فى شباكه، وفى النهاية يموت فى ظروف غامضة، فتقرر بعدها «زهرة» الخروج من البنسيون، وقد أصبحت أكثر قوة وصلابة، فتؤكد للصحفى العجوز عامر وجدى «سأكون أحسن مما كنت هنا».

نهايات مرة

فقيرة جاهلة ودميمة، هذه هى «نفيسة» بطلة «بداية ونهاية»، فتاة فى الثالثة والعشرين من عمرها، يمتلئ جسدها بالحياة والرغبة. تستسلم نفيسة ليأسها ، وبعد أن يعرف شقيقها ما فعلته؛ تقفز بملء إرادتها إلى النيل، لتعفى شقيقها من ارتكاب جريمة.

يموت عائل الأسرة، فيضطروا إلى بيع كل شىء حتى أثاث المنزل، يهجر الأخ الكبير الأسرة، بينما يترك الثانى تعليمه كى يلتحق بوظيفة توفر بضعة جنيهات، أما «نفيسة» فتعمل خياطة للمساعدة فى النفقات.

ترغب فى الزواج لكنها لا تجد من يتزوجها، فتعيش كآبات «العنوسة» التى تدفعها إلى البحث عن المتعة الحرام، فيغويها ابن البقال، ثم تسير فى طريق البغاء بدافع الشهوة التى سرعان ما تموت ويبقى دافع المال وحده، إنها كما تصف نفسها «ميتة مثل أبى، هو فى باب النصر وأنا فى شبرا».

الموت أيضا كان مصير «رباب» بطلة رواية «السراب» التى تظل متمسكة بوظيفتها رغم كل الظروف، أما زوجها فكان متعلقا بوالدته المطلقة بشكل مرضى، غيور، خجول، يخمد جسده بمجرد الاقتراب من زوجته الجميلة، حتى إنها تقيم علاقة مع طبيبه المعالج، وفى النهاية تفقد حياتها بعد عملية إجهاض فاشلة.

متحررات يثرثرن فوق النيل

ليس الرجال وحدهم من كانوا يهربون إلى العوامة فى رواية «ثرثرة فوق النيل»؛ بل النساء كذلك، هربا من أجواء القاهرة الخانقة والقمع السائد فى فترة الستينيات. فهذه «ليلى زيدان» المترجمة خريجة الجامعة الأمريكية، التى تعمل بالخارجية، جميلة ومثقفة وإحدى النماذج الرائدة، كانت تتردد على العوامة بديلا عن الزواج والأمومة.

أما سنية كامل فكانت «من بنات الميردى دييه، زوجة وأم، امرأة ممتازة حقا، وفى أوقات الكدر العائلى تعود إلى أصدقائها القدماء، سيدة مجربة عرفت الأنوثة عذراء وزوجا وأمّا». أما الفتاة سمارة بهجت، فهى صحفية مهتمة بالمسرح، ولا تتعاطى الحشيش مثل باقى رواد العوامة.

على عكس هؤلاء النسوة المتحررات؛ نرى تلك المرأة الصامتة المستكينة محدودة الثقافة والعقل، الخاضعة لجبروت «سى السيد عبد الجواد»، إنها السيدة «أمينة» فى الثلاثية الشهيرة، هى نموذج شائع للعديد من النساء فى تلك الحقبة، مستسلمات لأقدارهن، مجرد دمى فى بيوت أزواجهن. وعندما تجرؤ يوما على الخروج من بيتها لزياة سيدنا الحسين، وتصدمها «السوارس»؛ يقوم الزوج بطردها من المنزل.

ومثلما كانت مغلوبة على أمرها؛ نشأت ابنتاها داخل ذلك البيت لا يرى ظلهما الشارع؛ الابنة الكبرى «خديجة» سمراء لم تنل حظا من الجمال، ترث عن والدها الصلف، أما «عائشة» فجميلة تهتم بالتزين وتختلس النظر للمارة من خلف المشربية.

العشق والخيانة

عندما تكون الزوجة خائنة، والبغى عاشقة! امرأتان على النقيض فى علاقتهما بـ”سعيد مهران” بطل رواية «اللص والكلاب». يسعى للانتقام من «نبوية» الزوجة الخائنة وعشيقها، وفى طريقه تقع فى حبه «نور» فتاة الليل التى تحميه من مطاردة الشرطة، وترفض مكافأة سخية لإلقاء القبض عليه، لكنه رغم هذا لا يلتفت إلى حبها.

ثلاث نساء دخلن حياة «عيسى الدباغ» بطل رواية «السمان والخريف»، حبيبته وخطيبته الأولى «سلوى» ابنة عمه، التى تفسخ خطبتها به عندما تتغير ظروفه ويفقد وظيفته بعد ثورة ١٩٥٢. و»ريرى» فتاة الليل التى تعرف عليها فى الحى اليونانى بالإسكندرية فأحبته وحملت منه لكنه سرعان ما طردها. وزوجته «قدرية» التى تكبره فى السن ويكتشف أنها عاقر.

«ريرى» نموذج فريد لفتاة الليل التى تقرر الالتزام بالأخلاق، وعنها تقول الدكتورة نعمات أحمد فؤاد، إن نجيب محفوظ كثيرا ما قدم نماذج سيئة للمرأة لكنه قرر بعد ذلك أن يتصالح مع المرأة ويقدم نموذجا للكبرياء المتسامح والقدرة على الصمود أمام الإغراء والزهد فى الإثم.

كل هؤلاء نماذج مختلفة ومتعددة للمرأة فى أعمال محفوظ، التى حاول من خلالها تجسيد الأزمة الحادة التى مر بها المجتمع المصرى آنذاك وبخاصة الطبقة المتوسطة التى عاشت حالة تمزق بين تقاليد تكاد تسقط وحياة مدنية تداهم طبقات المجتمع بكل قوة، كما يقول الأديب الأردنى نايف النوايسة.

عندما خفق قلب نجيب

«وحب المرأة كالفن الهادف لاشك فى سمو هدفه ولكن تحوط بنزاهته الريب».. ماذا عن المرأة فى حياة محفوظ الحقيقية؟

فى حى الجمالية حيث نشأ شيخ الروائيين المصريين نجيب محفوظ، فى سنوات طفولته الأولى؛ بدأت علاقته بالمرأة حيث كان متاحا للصبيان اللعب مع البنات، فعاش أول قصة حب «ساذجة» انتهت بمجرد انتقاله إلى العباسية.

أما أول قصة حب حقيقية فكانت فى العباسية، وهى قصة حب غريبة كما يرويها أديب نوبل فى كتاب «نجيب محفوظ.. صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته» الذى أعده الناقد الراحل رجاء النقاش.

كان محفوظ على أعتاب مرحلة المراهقة، أما الحكاية فيرويها على لسانه قائلا: «كنت ألعب كرة القدم فى الشارع مع أصدقائى، وكان بيتها يطل على المكان الذى نلعب فيه. وأثناء اللعب شدنى وجه ساحر لفتاة تطل من الشرفة. كنت فى الثالثة عشرة من عمرى، أما هى فكانت فى العشرين، فتاة جميلة من أسرة معروفة فى العباسية. رأيت وجها أشبه بلوحة الجيوكندا التى تجذب الناظر إليها من اللحظة الأولى. ربما جذبنى إليها بالإضافة إلى جمالها أنها كانت مختلفة عن كل البنات اللائى عرفتهن قبلها. لم تكن فتاة تقليدية مثل بنات العباسية، بل كانت تميل إلى الطابع الأوربى فى مظهرها وتحركاتها، وهو طابع لم يكن مألوفا آنذاك».

ظل حب محفوظ من بعيد ومن طرف واحد، لم يجرؤ على محادثتها أو لفت انتباهها إلى حبه الصامت، واكتفى منها بمجرد النظر إلى وجهها الجميل. استمر الحب الصامت لمدة عام كامل. وكم كان حزنه شديدا عندما تزوجت فتاته وانتقلت إلى بيتها الجديد!

كان محفوظ يعلم أن ارتباطه بها شبه مستحيل، لكنه رغم ذلك هام بها حبا، وصدم لزواجها بشدة. يقول: «مضت الأيام وبدأ حبها يخفت وتنطفئ نيرانه، خاصة بعد أن تخرجت من الجامعة وانشغلت بالوظيفة وبحياتى الأدبية ثم زواجى بعد ذلك. إلا أن حبى لها لم يهدأ أبدا، وظلت آثاره عالقة بقلبى وذاكرتى».

يعترف محفوظ بأنه قبل زواجه «كانت نظرتى للمرأة فى ذلك الحين جنسية بحتة. ليس فيها أى دور للعواطف أو المشاعر، وإن كان يشوبها أحيانا شىء من الاحترام. ثم تطورت هذه النظرة وأخذت فى الاعتدال بعدما فكرت فى الزواج والاستقرار».

كان زواج شيخ الروائيين العرب من «عطية الله» زواجا عمليا، اختار الزوجة المناسبة لظروفه، ولم تنشأ بينهما قصة حب سابقة على الزواج، يقول: «كنت فى حاجة إلى زوجة توفر لى ظروفا مريحة تساعدنى على الكتابة ولا تنغص حياتي. زوجة تفهم أننى لست كائنا اجتماعيا، ولا أحب أن أزور أحدا أو يزورنى أحد، وأننى وهبت حياتى كلها للأدب. ووجدت فى عطية الله هذا التفهم وتلك الصفات المناسبة لى».

طوال حياة أديبنا الزوجية لم يحدث أن طلب مشورة من زوجته أو ابنتيه فى أى عمل أدبى يكتبه، ولم يحدث أن عرض عليهن عملا قبل صدوره، وكن يقرأنه عندما يخرج للنور مع القراء.. لم تكن المرأة فى واقع محفوظ سوى شخص يؤدى دورا تقليديا ويوفر ظروفا تساعده على الكتابة. زوجة تفهم أنه ليس كائنا اجتماعيا، وأن محفوظ العظيم وهب جل حياته للكلمات المسكوبة فوق الورق.