الثلاثاء 21 مايو 2024

«جول فيرن» رائدا لأدب الخيال العلمي

جول فيرن

ثقافة8-3-2023 | 15:20

حاتم السروي

«جول فيرن».. اسمٌ له وقعه الجميل، وذلك لأنه المؤلف الفرنسي العبقري الذي يمكن لنا أن نعتبره الأب الشرعي لرواية "الخيال العلمي" فهو الذي أدخلها إلى محيط الأدب العالمي، ومتى؟ في منتصف حياته على وجه التقريب.

ولد "جول فيرن" في الثامن من فبراير لعام 1828م ورغم أن دراسته كانت في القانون؛ إلا أن روح الأدب جذبته لتصنع منه كاتبًا مسرحيًا ومؤلفًا للنصوص الأوبرالية في الفترة من عام 1848 إلى 1862م، وذلك بالطبع قبل أن يصدر عمله الفانتازي الأول "خمسة أسابيع في بالونة" عام 1863 والتي لاقت نجاحًا مهد الطريق لأعماله الفانتازية اللاحقة.

على أن "الموجة العلمية" التي سيطرت على أوروبا، وأخرجت لنا أمثال "إيميل زولا" برواياته التي ضَفَّر فيها الأدب مع العلم، سرعان ما اجتذبت إليها "جول فيرن" أيضًا، وشرع "فيرن" في إطلاق العنان لخياله الخصب لكن مع الأخذ في الاعتبار أن ثمة حقائق علمية تفرض نفسها على الجميع؛ لذلك عمل كاتبنا على وضع أساس علمي محسوب قبل الانطلاق في مشروعه الروائي الكبير والمتمثل في "أدب الخيال العلمي" ولأنه كان ينطلق من أساس علمي فقد أمكنه ذلك من التنبؤ بمتغيرات جديدة في المستقبل، وقد يندهش القارئ حين نخبره بأنه تنبأ بظهور المكيفات الهوائية، وحرب الغواصات، وأفلام الصور المتحركة، والصواريخ الموجهة، وكان هذا كله قبل اختراع تلك الأشياء بفترة ليست بالقصيرة.

و"جول فيرن" الذي عرفناه من خلال قصته المسلية "رحلة إلى مركز الأرض" وأيضًا من خلال قصة "عشرون ألف فرسخ تحت الماء" كان ملهمًا لكثيرٍ من الأعمال السينمائية؛ حيث تولى الفنان "جورج ميلييه" إخراج الكثير من الأفلام المأخوذة عن أعماله؛ على أن تأثير فيرن الحقيقي هو في ريادته لأدب الخيال العلمي، وتأثيره على نخبة من الأدباء الذين وقعوا في دائرة جاذبيته وأسرهم سحر إبداعه ذي الصبغة العلمية، وكان على رأس من تأثروا به واستكملوا مسيرته الأديب الإنجليزي "هربرت جورج ويلز" المولود في 21 سبتمبر لعام 1866م وكان فيرن في ذلك العام يتربع على قمة مجده، ولاشك أن تأثير "فيرن" الفرنسي على "ويلز" الإنجليزي من الأمور المسلم بها؛ غير أن ما يميز "ويلز" هو احتواء رواياته على انتقادات اجتماعية هادفة إ لم يكتفِ بسرد المغامرات، ومن قصص "ويلز" الشهيرة: "آلة الزمن" وقد تم تحويلها إلى فيلم سينمائي، ورسوم متحركة، كما تمت الاستعانة بفكرة "آلة الزمن" في أكثر من عمل فني، فهي فكرة مسلية جدًا ولاشك أنها تنم عن ذكاء كاتبها، وله أيضًا قصة "الرجل الخفي" و"شكل الأشياء القادمة".

نعود إلى "جول فيرن" فنقول إن شهرته كأديب للخيال العالمي لا تطغى أو يجب ألا تطغى على شهرته كأديب مؤثر على محيطه الأدبي سواءً في فرنسا أو في أوروبا كلها؛ فمما لا شك فيه أنه أحد رواد الأدب الطليعي، وهو أحد أكثر كُتَّاب أوروبا الغربية من حيث الترجمة إلى اللغات الأخرى بحيث ينافس "ويليام شكسبير" في ذلك، وتنافسه "أجاثا كريستي" بقصصها البوليسية، ولعل شهرته كأحد آباء "الخيال العلمي" تعود إلى الترجمات المختصرة الشائقة لرواياته إلى الإنجليزية، وبالأخص رواية "من الأرض إلى القمر" التي تنبأ فيها بإرسال ثلاثة رواد فضاء إلى سطح القمر، وهو ما حدث بالفعل بعد وفاته التي كانت عام 1905 بكثير؛ إذ بدأت الولايات المتحدة الأمريكية في إرسال مركباتها الفضائية إلى القمر، وهبط رائد الفضاء الأمريكي "نيل آرم سترونج" على القمر في ستينيات القرن العشرين ليكون بذلك أول إنسان يهبط على سطح القمر.

وربما عنَّ لنا أن نتسائل بعد ملاحظتنا لمقدار النجاح الذي حققه "فيرن" عن أمرين؛ أولهما: ما هو سبب إقصاء النقاد العرب - أو بعضهم حتى لا نقع في خطأ التعميم- لأدب الخيال العلمي، وحسبانهم إياه ضربًا من العبث واللهو، وادعاء بعضهم أنه غير جدير بوصف "أدب" فهل يكون مرد ذلك من وجهة نظرهم إلى "شعبوية" هذا النوع الأدبي، وإقبال الجماهير عليه، وبالطبع لا يمكن أن يكون هذا سببًا كافيًا لنفي صفة "الأدب" عن قصص "الخيال العلمي" أو "أدب الرحلات" ولدينا مثالٌ حي في قصة "حول العالم في ثمانين يومًا" لجول فيرن، فهي قصة مسلية لاقت رواجًا لدى الجمهور، وهي دون شك أدب لا يخلو من الإبداع، ولو نفينا صفة الأدب عن أي رواية تصادف قبولًا جماهيريًا فهذا لا معنى له إلا أن النقاد لا يرون الأدب سوى في القوالب الجامدة أو الأعمال التي تجنح إلى الفلسفة أو التراجيديات وحدها، وهي أعمال لطالما لَقِيَت نفورًا من القراء، وخاصة تلك الأعمال التي لا يعرف القارئ على التحديد ما السبب وراء كتابتها إذ يعمد بعض الأدباء إلى الغموض والإبهام فربما أشعرهم ذلك بنوع من الأستاذية على القراء!

الأمر الثاني الذي حُقَّ لنا أن نتسائل عنه: لماذا لا يجني الأدباء في العالم العربي مكاسب أدبية من خلال أعمالهم الإبداعية على غرار ما نجده لدى كتاب الغرب عمومًا، والأمثلة كثيرة؛ فالكاتب في الغرب يستطيع بكل سهولة أن يتفرغ لعمله الإبداعي معتمدًا على ما يُدِرُّه عليه من دخلٍ مضمون؛ وعلى سبيل المثال: لم تؤلف "مارجريت ميتشل" في حياتها سوى رواية واحدة، وهي "ذهب مع الريح" وربحت الكثير من مبيعات الرواية التي لم يمهلها القدر لتأليف غيرها بعد أن توفيت في حادثة مرورية عام 1949م.. ولا شك أن إجابة هذا السؤال تكمن في عبارة واحدة مختصرة: " إن العالم العربي يعاني عجزًا في القراء وتُخمة في المؤلفين".

ورغم إقصاء بعض النقاد العرب لأدب الخيال العلمي لأسباب قد يرونها وجيهة؛ إلا أنه لا مفر من إخبارهم بتأثير "فيرن" وأمثاله من كتاب هذا القالب الأدبي علينا، ويكفي أنه بقصصه المسلية جعنا نقبل على قراءة الروايات عمومًا باختلاف الأنواع والمدارس الأدبية.. لقد أيقظ فينا جول فيرن حاسة حب الاستطلاع وغَذَّى حب الشباب للمغامرة والحلم والسفر ورؤية عوالم جديدة مدهشة، ومن هنا عمل كثير من محرري الكتب على تبسيط وتلخيص أعمال فيرن حتى يقبل عليها الشباب أكثر فأكثر.

على أن الإضافة الأهم والأكبر والتي ساهمت في سرعة انتشار أعمال "فيرن" وترجمتها إلى كل لغات العالم تقريبًا هي تلك الحكايات المصورة أو "الكوميكسات" التي اعتمدت على الشرائط المرسومة Strips في بعضها، وكذلك على ما نعرفه بـ "الرسوم التعبيرية" في البعض الآخر، وهي حكايات طريفة وممتعة تم تقديمها في سلاسل ذات أشكال جذابة للقراء، مع التنوع من حيث عناصر الجرافيك وطرق التلوين، ويبدو أن "فيرن" ألهب خيال الرسامين فأضافوا لأعماله مساحات تعبيرية برعوا فيها وتألقوا، وقد قامت شركة "مارفل" بإعداد قصتي "عشرون ألف فرسخ تحت الماء" و"الجزيرة الغامضة" على هيئة حكايات مصورة، وهي الشركة نفسها التي ابتكرت شخصيات "سوبر مان" و"بات مان" و"سبايدر مان".

ويبدو أن الفنان البلجيكي ورسام الكاريكاتير "جورج برسبير ريمي" الشهير بـ "هيرجيه" مؤلف "مغامرات تان" الشهيرة، والتي بدأ كتابتها في العاشر من يناير لعام 1929م لصالح ملحق الأطفال الخاص بجريدة "القرن العشرين الفرنسية" قد أولع بـ "جول فيرن" فقدم ألبومًا كاملًا بعنوان "تان تان يقابل جول فيرن".

إن اهتمامنا بـ "جول فيرن" هو دعوة لتقديم أنواع مختلفة وقوالب متنوعة من الأدب، فالأدب ليس كتلة مصمتة، ولكنه موهبة خلاقة تستطيع في كل عمل أن تضيف جديدًا، وأن تمتع القارئ بما لا نهاية له من الأشكال، أليس كذلك؟