أجلْ.. مثلما قرأتَ عزيزي القارئ، فلم أخطئ في كتابة العنوان بل قصدتُ ذلك مع سبْق الإصرار، وقبلما تستشيط غضباً من ذلك العنوان الصادم.. تعال نرى ماذا أردتُ بمصطلح (عُرْي الألسنة).. أكنت أريد انعدام الحياء واستخدام الألفاظ المبتذلة؟!! (وهذا أمرٌ لا يمكن إنكاره فيكفيك أن تلقي سمعك إلى اثنين يتمازحان أو يتحاوران أو يتجادلان.. بل يكفيك مرورٌ عابرٌ بصفحات وسائل التواصل الاجتماعي لترى كيف تدنَّتْ اللغة اليومية) أمْ أننا لم نواكب مثلاً اختراعا غربياً يُستخدم غطاءً للألسنة رغم أننا لا نقصِّر في مِثْل هذه الخيبات من تفانين الموضة ؟!!
لا هذا.. ولا ذاك عزيزي القارئ، وإنما كان قصْدي من هذا المصطلح (عُرْي الألسنة) وأزعم أني أول من استخدمه كان قصدي افتقار الألسنة إلى أهم وسائل زينتها وجمالها ألا وهي اللغة العربية، ودائماً ما أقف مدهوشاً أمام حديث رسولنا الكريم حينما قال لعمِّه العباس: يعجبني جمالُك.. فقال العباس: وما جمال الرجل يا رسول الله ؟!! قال : لسانه !!، جاءت الإجابة قاطعةً تبين موطن جمال الرجل فرغم أن أعضاء النطق تبدأ من الحجاب الحاجز فالشُعَب الهوائية مروراً بالحنجرة وأحبالها الصوتية ومشتملات الفم حتى الشفتين بل إن الأنف يشارك في نطق حرفي الميم والنون ؛ إلا أن اللسان يلخِّص هذه الأعضاء وينوب عنها؛ فهو مرآة العقل الناطقة بمكنونات نفس الإنسان وأسرار روحه، فكيف نصف لساناً لايملك من اللغة العربية فصاحةً وبياناً ؟! وليس هذا من قبيل التعصُّب للغة العربية؛ فقد أعلى الله قدْرها ومقامها في القرآن الكريم .. حيث قال تعالي في سورة يوسف: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)، وفي سورة الشعراء قال تعالي: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ).
ولا نزال نذكر البيت الشهير لشاعر النيل حافظ إبراهيم "أَنا البَحرُ في أَحشائِهِ الدُرُّ كامِنٌ ## فَهَل سَاءلوا الغَوّاصَ عَن صَدَفاتي» بصوت الشاعر الرائع فاروق شوشة في مقدمة البرنامج الإذاعي الشهير "لغتنا الجميلة، ولا نزال نذكر ما قاله أمير الشعراء أحمد شوقي في مدح اللغة العربية «إن الذي ملأ اللغات محاسنا ## جعل الجمال وسره في الضاد».
ورغم جمال اللغة العربية الساحر والذي يبين لكل متجوِّلٍ في مغاني الشعر العربي على مرِّ العصور؛ من العصر الجاهليِّ حتى العصر الحديث وبشهادة المتخصصين فيها من علماء عرب أو مستشرقين، إلا أنها لا تحظى بيننا بما تستحق من منزلةٍ ومكانة؛ وأصبح الملتزمون بها نطقاً واستخداماً مثارَ سخريةٍ، يبين ذلك في الأعمال الدرامية من مسلسلاتٍ أو أفلامٍ أو مسرحياتٍ، وأصبح تمدُّن الإنسان العربي يُقاس بكثرة ما يرطن بمفرداتٍ أجنبيةٍ أثناء أحاديثه اليومية، نحن لا ننادي بالانغلاق لكننا.. لماذا لا نشعر بالفخر حال استخدامها في المحافل الدولية، وقد قال حافظ إبراهيم على لسان اللغة العربية:
وَسِعتُ كِتابَ اللَهِ لَفظاً وَغايَةً ## وَما ضِقتُ عَن آيٍ بِهِ وَعِظاتِ
فَكَيفَ أَضيقُ اليَومَ عَن وَصفِ آلَةٍ ## وَتَنسيقِ أَسماءٍ .. لِمُختَرَعاتِ ولسنا هنا في موضع توزيع الاتهامات لكننا جميعاً نشترك فيما وصلنا إليه، وعلينا مسئوليةٌ كبرى تجاه أمتنا العربية التي لولا لسانها العربي ما سمِّيت بالأمة العربية، هذا التشتت اللغوي والإحساس بغربة اللغة في موطنها دفع شاعراً من أشهر شعراء زيمبابوي وهو تشيريكوري تشيريكوري إلى التصدي لتغوُّل اللغة الإنجليزية وسيطرتها؛ الأمر الذي يُضعف من حظوظ لغة الوطن المحلية السائدة وهي "التشيشونا" فهو يراها:
احتلت مكان العمل...!! واحتلت لغة الحوار بين أفراد الأسرة وخطورة ذلك على الأطفال وانتمائهم لوطنهم، وهي لغة الجالسين في المقاهي والحانات، ولغة الخطباء السياسيين حينما يخطبون في أنصارهم، ومما يثير الاستغراب أن هذه القطاعات البشرية التي تستخدم الإنجليزية استخداماً يومياً تحيا في زيمبابوي، ومعطيات حياتها محلية ومشكلاتها محلية وطموحاتها محلية فكان الأولى بهم استخدام لغتهم المحلية "التشيشونا" ...!!! ثم يأتي ختام القصيدة مفعماً بمرارة السخرية حيث يرى الشاعر أن استخدام الإنجليزية في طلب الأمنيات من السماء قبل النوم يساعد في تحقيقها بسهولة ...!! بل يرى أن الإنجليزية ربما تكون اللغة الرسمية للملائكة... !! لكن لا حظوظ للغته المحلية " التشيشونا " ... والآن مع " تشيريكوري تشيريكوري " وقصيدة " نَعَمْ .. نَعَمْ ... يِسْ ... يِسْ !!!":
في مكان العمل ... طوال اليوم تسمع "يس ... يس " هذه هي اللغة الرسمية للمكتب !! في المنزل الأسرة كلها تقول " يس ... يس " هذه هي اللغة الجديدة بين الوالد أو الوالدة والطفل !! في الحانة أينما اتجهت تسمع " يس ... يس "هذه هي أفضل لغة للجدل و المناقشة !! تلك الحشود والتجمعات السياسية تسمع فيها " يس...يس "لتفهم السياسةَ على الوجه الأفضل عليك استخدام هذي اللغة !! في السرير ... قبل النوم مرة أخرى " يس " الأمنيات تتحقق بسهولة وسرعة بهذي اللغة !! ربما - لست أدري - ربما هناك في السماء أيضاً " يس ... يس " في كل مكان أمَّا لغة " التشيشونا " فممنوعة منعاً باتاً !!!