بقلم – طه فرغلى
على جبل عرفات يقف غدا أكثر من مليونى حاج داعين مكبرين مهللين، أتوا من كل فج عميق طامعين فى المغفرة والرحمة بذلوا الغالى والنفيس فى سبيل هذه اللحظة الخالدة، التى يرجع المرء بعدها كيوم ولدته أمه.
غدا اليوم الأعظم على مدار السنة، رحمات تتنزل ودعوات تستجاب، ورب غفور رحيم يقبل التوبة عن عبادة ويعفو عن كثير.
دموع منهمرة، وقلوب خاشعة متضرعة ، وأبصار متعلقة بالسماء، لا مجال للدنيا اليوم، لا حديث عن هموم أو أزمات أو طموحات وأحلام، فقط تلبية وتضرع لعل الله يغفر ويرحم.
آلاف تركوا الدنيا وراء ظهورهم وأيقنوا أنها لا تساوى عند الله جناح بعوضة، رحلوا عن ديارهم تاركين الأهل والمال والولد، خلعوا ملابس الدنيا وارتدوا ملابس الإحرام، لا فرق بين عربى ولا أعجمى ولا أسود أو أبيض، الكل واحد على صعيد الرحمة، ألسنتهم مختلفة ، ولكن قلوبهم تنطق لغة واحدة، لغة السكينة والاطمئنان.
ألسنة مختلفة والتلبية واحدة “لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك”.
دموع تنهمر وقلوب مستكينة وأكف مرفوعة متذللة وألسنة تلهث بالدعاء “اللهم أغفر ذنوبنا وإسرافنا فى أمرنا وتقبل حجنا”.
هؤلاء المخلصون لا يبغون رياء ولاسمعة، بعضهم عاش طول عمره يدخر القليل ويضع القرش على القرش حتى يكتب الله له الحج وتأدية الفريضة، تنهمر دموعه كل عام وهو يرى الحجاج يطوفون ويلبون ويسعون، ويرفع رأسه للسماء ويدعو “اللهم ارزقنا زيارة بيتك الحرام العام المقبل”.
يعيش المسلم حياته يحلم بزيارة بيت الله الحرام وأداء ركن الحج الأعظم، ولكن تسقط عنه الفريضة إذا لم يكن مستطيعا، فشرطها “من استطاع إليه سبيلا”، وكتبها الله على المسلم مرة واحدة فى عمره، وأداها الرسول صلى الله عليه وسلم مرة واحدة بعد أن أيده الله بنصره ودخل الناس فى دين الله أفواجا.
حج الرسول حجة واحدة، ولم يحج أكثر من مرة حتى لا يعتبرها الناس سنة مؤكدة، وفى هذا بيان للناس عظيم أن هذه الشعيرة إنما تؤدى مرة واحدة، وعدا ذلك تصبح نافلة.
ومعنى نافلة فى معاجم اللغة العربية أى زائدة على الفرض وهى مما زاد على النصيب أو الحق أو الفرض.
وفى زماننا هذا نرى كثيرا من المقتدرين والموسرين يحجون العام تلو العام، وينفقون الأموال فى سبيل حج النافلة، وغيرهم لا يستطيع أن يؤدى الفريضة، وكثيرون يعانون الفاقة وضيق الحال.
والفقراء فى أغلب بلاد المسلمين لا يجدون قوت يومهم، والمرضى يبحثون عمن يتكفل بعلاجهم فما هو الأفضل الحج كل عام أم إطعام الفقراء وإيواء المعوزين وعلاج المرضى وكفالة الأيتام؟
هل يجوز الحج كل عام فى بلاد تعانى أزمات اقتصادية ومعيشية؟
الإجابة المؤكدة والتى لا تحتاج إلى علماء فى الفقه أو الشريعة فقط تحتاج إلى مبصرين ينظرون حولهم ويدركون واقع الحياة المحيط بهم أن الأولى كفالة الفقراء والأيتام وعلاج المرضى وبناء المستشفيات والمدارس، ذلك خير لكم إن كنتم تعلمون وتعقلون وتدركون شريعة الله وفرائضه ولا تتخذون من فريضة الحج رحلة سنوية لكم فيها مآرب أخرى.
وعلى كل حال دار الإفتاء المصرية لها فتوى معتبرة فى هذا الخصوص نوردها هنا بنصها حتى يعتبر أولو الألباب.
دار الإفتاء ورد إليها سؤال: هل مساعدة الفقراء أَولى من نافلة الحج؟ وما هو الأفضل بالنسبة للأغنياء: هل هو حج التطوع وعمرة التطوع، أو كفاية الفقراء والمساكين والمحتاجين وعلاج المرضى وسد ديون الغارمين وغير ذلك من وجوه تفريج كرب الناس وتخفيف آلامهم وسد حاجاتهم، وذلك في ظل ما يعيشه المسلمون من ظروف اقتصادية صعبة؟
وجاءت الإجابة: «في هذا العصر الذى كثرت فيه الفاقات واشتدت الحاجات وضعف فيه اقتصاد كثير من البلاد الإسلامية نفتى بأن كفاية الفقراء والمحتاجين وعلاج المرضى وسد ديون الغارمين وغيرها من وجوه تفريج كرب الناس وسد حاجاتهم مقدَّمة على نافلة الحج والعمرة بلا خلاف، وأكثر ثوابًا منها، وأقرب قبولًا عند الله تعالى، وهذا هو الذى دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، واتفق عليه علماء الأمة ومذاهبها المتبوعة، وأنه يجب على أغنياء المسلمين القيام بفرض كفاية دفع الفاقات عن أصحاب الحاجات، والاشتغال بذلك مقدَّم قطعًا على الاشتغال بنافلة الحج والعمرة، والقائم بفرض الكفاية أكثر ثوابًا من القائم بفرض العين؛ لأنه ساعٍ في رفع الإثم عن جميع الأمة، بل نص جماعة من الفقهاء على أنه إذا تعينت المواساةُ في حالة المجاعة وازدياد الحاجة على مريد حج الفريضة فإنه يجب عليه تقديمها على الحج؛ للاتفاق على وجوب المواساة حينئذٍ على الفور، بخلاف الحج الذي اختلف فى كونه واجبًا على الفور أو التراخى.
ولا يجوز للواجدين إهمالُ المعوزين تحت مبرر الإكثار من النوافل والطاعات؛ فإنه لا يجوز ترك الواجبات لتحصيل المستحبات، ولا يسوغ التشاغل بالعبادات القاصرة ذات النفع الخاص، وبذل الأوقات والأموال فيها، على حساب القيام بالعبادات المتعدية ذات المصلحة العامة، وعلى مريد التطوع بالحج والعمرة السعىُ في بذل ماله في كفاية الفقراء، وسد حاجات المساكين، وقضاء ديون الغارمين، قبل بذله فى تطوع العبادات، كما أن تقديم سد حاجات المحتاجين وإعطاء المعوزين على التطوع بالحج أو العمرة ينيل فاعلها ثواب الأمرين معًا».
انتهت الفتوى ووجب على الأغنياء والموسرين أن تذهب أموالهم إلى الفقراء أفضل من حج النافلة.
بل وأحيانا وفى حالة المجاعة وازدياد الحاجة أفضل من حج الفريضة كما تقول الفتوى.