• كان لعلوية جميل عدد من الشروط على فنان الشعب يوسف وهبى، لكي تعمل في فرقة رمسيس وهي الممثلة الوحيدة التي "تشرطت عليه"، وكان أول الشروط ألا تعمل باسمها الحقيقى
• كانت علوية جميل تشتهر باسم جان دارك، وهي الشخصية التى قدمتها في مسرحية "جان دارك" في مسرح المدرسة، فلم يعد أحدا يناديها باسمها "جورجيت"، وأصبحت بين الجميع جان دارك
• تعلمت علوية جميل في مسرح رمسيس من فطاحلة التمثيل فى الفرقة وكانت هي الفتاة الوحيدة التي قبلها يوسف وهبى من 16 فتاة تقدمن للعمل فى الفرقة
لا ينكر أحد دور فرقة رمسيس المسرحية في تاريخ المسرح المصرى، فيمكن القول إن المسرح المصرى بشكله الحديث قام على أكتاف فرقة رمسيس وفرقة الريحانى، بالشق الكوميدى والدرامى، وكلاهما كان يسخر مما يقدمه الآخر، وقد جاءت سخرية الريحانى من ميلو دراما يوسف وهبى في الفيلم الأخير للريحاني "غزل البنات"، عندما جمعه المشهد بليلى مراد ويوسف وهبى الذى كان ضيف شرف الفيلم:
- احنا جينا علشان نستخبى عندك
- ليه؟
- علشان قتلنا قتيل.. دبحنا واحد.
ليقول يوسف وهبى:
يا حفيظ.. دبحتوا واحد.
ليرد الريحاني:
- أيوة أيوة دبحنا واحد... مستكتر علينا ندبح واحد طيب سعادتك دابح ملايين...
في إشارة لميلو دراما يوسف وهبي الذي يقوم فيها البطل بقتل كل الأشرار لتحدث عملية التطهير الذى تحدث عنها أرسطو في كتابه الشهير "فن الشعر"، لذا ربما يكون هذا المقال فرصة مواتية لنتحدث عن واحدة من أشرار خشبة مسرح "رمسيس"، الفنانة الكبيرة علوية جميل.
الأصول والبدايات
ولدت جورجيت صابات خليل مجدلانى في 15 ديسمبر1910م بقرية طماى الزهايرة محافظة الدقهلية، وهي القرية التى أنجبت سيدة الغناء العربى السيدة أم كلثوم من قبل، وتعود أصول أسرة صابات للبنان (ينتشر على مواقع الإنترنت إن اسمها إليا، وهو أمر غير صحيح).
هذه الأسرة التي لم تفكر في احتراف ابنتها عالم الفن بالطبع، لكن الفتاة أحبت الفن.
سافرت "جورجيت" إلى الإسكندرية لتتلقى تعليمها في مدرسة الراهبات، وعندما تعرف أن هناك أسرة ترسل ابنتها للإسكندرية لتتعلم، فهذا يعكس لك أن الأسرة ميسورة الحال، فالتعليم لم يكن بهذه السهولة في هذا الوقت.
في الإسكندرية هذا المكان الساحر، أما أن يصادفك حب حياتك، أو تعرف الطريق إلى المستقبل، وهو ما حدث لها، حيث وقعت في غرام الفن، بعد مشاركتها في حفلات المدرسة، حيث كانت بطلة فرقة المدرسة المسرحية.
واشتهرت جورجيت باسم جان دارك، وهي الشخصية التي قدمتها في مسرحية "جان دارك" في مسرح المدرسة، لذا لم يعد أحد يناديها باسمها، وأصبحت بين الجميع جان دارك.
أخبار يوسف وهبي
كانت العلاقة بين يوسف وهبى ووالده عبد الله باشا وهبي مضطربة للغاية، حتى إن الكاتب أنيس منصور ينقل رواية مفادها أن عبد الله باشا وهبى، تبرأ من ابنه بسبب تعلقه بالفن، سافر الولد الصغير يوسف لإيطاليا لدراسة الفن، فكتب له شقيقه القاضى محمود وهبى تلغرافا من كلمتين "والدك توفى"، ليقرر يوسف العودة لمصر، تاركا ميلانو الإيطالية.
وقال له شقيقه القاضى محمود وهبى: "آخر كلمات والدنا، قبل وفاته كانت: فين يوسف ؟ .. إذا قابلتموه قولوا له أني مسامحه، وسلمه ميراثه الذى بلغ 10 الآف جنيه ذهبى (كان عبد الله باشا وهبى من أعيان الفيوم، وكان مفتشاً للرى بالفيوم، وهو الذي قام بحفر ترعة عبد الله وهبي بالفيوم، والتي حولت آلاف الأفدنة من الأراضى الصحراوية إلى أراضي زراعية، وأنشأ المسجد المعروف باسم «مسجد عبد الله بك» المطل على كوبري مرزبان بالفيوم.
وبعد أن استلم ثروته قرر يوسف وهبي تكوين مسرح على غرار المسارح الأوروبية التي شُغف بحبها، وقرر أن يتجنب كل المغالطات التي وقع فيها المصريون عند تأسيس المسارح.
وظل يوسف وهبي يبحث عن أستاذه ومكتشفه عزيز عيد، الذى شاهده وهو 16 سنة فى حفل للنادى الأهلى وطلب منه احتراف الفن، أسسس عزيز عيد فرقة مسرحية لكنها أفلست، وهام على وجهه، والرواية الأشهر لعثور يوسف وهبى، إنه عثر عليه حافيا يتسول السيجارة، ويلم أعقاب السجائر من الأرض.
لكن ربما سألت نفسك لماذا يُطلق يوسف وهبى على مسرحه اسم مسرح رمسيس، خاصة أن كل المسارح في هذا الوقت كانت تحمل اسم صاحبها، فرقة جورج أبيض، فرقة الريحانى، فلماذا فرقة رمسيس، لأن يوسف وهبى عندما سافر لإيطاليا للعمل بالفن، أطلق على نفسه اسم رمسيس اعتزازا بهويته المصرية.
وضمت الفرقة عددا من النابهين فى فن التمثيل هم حسين رياض، استيفان روستي، روزا اليوسف، فاطمة رشدي، أحمد علام، حسن فايق ، سرينا إبراهيم.
***
كانت في الثانية عشرة من عمرها، عندما أخبرتها والدتها أنها ستتوقف عن التعليم، لأنها ستتزوج، وتحولت من مودمزيل جان دارك لمدام جورجيت، ابنتها عايدة وهى فى الثالثة عشرة من عمرها، وبعدها أنجبت ولدين وفتاة (جمال ومرسى وإيزيس)، واستمر الزواج 8 سنوات، وانتهى بالانفصال، وعادت لتعيش مع والدتها.
وكان لديها وقت فراغ كبير، كانت تقضيه في فن الكانفا والقراءة، وكانت والدتها مشتركة في جريدة الأهرام وترسل الصحيفة للمنزل يوميا، وفي يوم وجدت إعلان نشره الفنان يوسف وهبى يعلن فيه عن احتياجه فيه لبنات عائلات مثقفات، بشرط أن تكون "الهواية" في دمهم، للعمل ممثلات في فرقة رمسيس، وبعدها خبأت الجريدة، حتى لا يراها أحد.
ركبت سيارة حنطور وطلبت من السائق أن يوصلها لمسرح رمسيس، ونزلت عند الباب الخلفى للمسرح، وطلبت مقابلة يوسف وهبى، وكان معه مدير الإدارة المرحوم أحمد عسكر، وأعجب بها وأعطاها مشهدا من مسرحية كرسي الاعتراف لتمثله، وأعجب بها للغاية، وقرر ضمها للفرقة، لكن بدون مقابل مادى في البداية. وأعطاها اسمها الفنى "علوية جميل"، لتبدأ من هنا رحلة فنانة من أشهر فنانات المسرح المصري.
****
كان لعلوية جميل عدد من الشروط على فنان الشعب يوسف وهبى، لكى تعمل في فرقة رمسيس وهي الممثلة الوحيدة التي "تشرطت عليه"، وكانت شروطها:
- ألا تعمل باسمها الحقيقي حتى لا يعرف أحد اسمها.
- ألا تعمل كومبارس في أى مسرحية.
- ألا تمثل أي دور مخل بالآداب، وإذا أصر على دور معين ستترك الفرقة.
- ولو اعترض أهلى على التمثيل سأترك الفرقة.
أعجب يوسف وهبى بشخصية "جورجيت"، وأعطاها اسم علوية جميل، ونظرا لظروفها العائلية، استثناها يوسف وهبى من البروفات المسائية، وأصبحت تحضر البروفات الصباحية فقط،
تعلمت علوية جميل في مسرح رمسيس من فطاحلة التمثيل في الفرقة مثل أحمد علام، وحسين رياض ومختار حسين، واستيفان روستى، وزكي رستم وفتوح نشاطى وحسن فايق، والسيدات زينب صدقى وأمينة رزق وفردوس حسن وسارينا إبراهيم ومارى منصور، وكانت هي الفتاة الوحيدة التي قبلها من 16 فتاة تقدمن ليوسف وهبى.
اقترب عرض مسرحية أحدب نوتردام التي ستشارك فيها علوية جميل، ولم تكن قد أخبرت والدتها بعملها في فرقة رمسيس، فقررت مصارحتها، ولك أن تتخيل ردة فعل والدتها، لكن في النهاية رضخت الأم بعد كذب علوية عليها أنها لو لم تعمل في الفن سيقوم يوسف وهبى بمقاضاتها.
وبعد شهر من عملها في فرقة رمسيس، نشر لها الصحفي النابه محمد التابعى، صورة على غلاف مجلة روز اليوسف باعتبارها واحدة من أوائل بنات العائلات العاملات فى الفن، لتقوم قيامة علوية جميل مع عائلتها، وتواجه حربا شرسة، ليصبح استمرارها فى العمل في حكم المستحيل، فقررت الاستقالة، وكانت والدتها لا تتحدث معها، حتى يوم عودتها من الخارج لتجد يوسف وهبي وشقيقه إسماعيل وهبى المحامي يجلسون مع السيدة والدتها، ليقنعاها بعودة علوية للمسرح، فوافقت على عودتها للمسرح.
لكن في أحد الأيام، جاء ابنة خالة والدتها لعزومتها على فرح ابنتها، فوافقت الأم، لكن ابنة خالتها قالت لها:
- ما تأخذنيش بلاش علوية تحضر .. لربما حد يكون في الفرح يعرفها.
غضبت الأم، وقالت لها:
- البيت اللي ممنوع علوية تدخله، يبقى متحرم عليا أنا كمان لحد ما أموت.
وقالت الأم لعلوية:
- أعملي اللي عايزاه .. بس خليكى في شغلك .. خافى ربك.. ومحافظة على شرفك .. دا كل اللي عايزاه منك.
ومن هنا بدأت انطلاقة علوية جميل على المسرح، مع فرقة رمسيس، وشاركت علوية فى مسرحية كرسى الاعتراف، ويمكنني القول إنه لم تنجح مسرحية في مصر كما نجحت هذه المسرحية، المسرحية من ترجمة الفنان "استيفان روستى" الذى عمل لفترة في ترجمة الأدب للفرق المسرحية، وتحكي عن كردينال (رتبة دينية رفيعة بالكنيسة الكاثوليكية)، ويتلقى اعترافاً من قائد للجيش بأنه أرتكب جريمة قتل بحق والد حبيبته التي رفض أن يزوجها له.
وبعد أن أعترف قائد الجيش بهذا الاعتراف الخطير اختفى لفترة، وفي فترة اختفائه تم اتهام أخيه بجريمة القتل، وأوشك أن يصل لحكم الإعدام، ليقع الكردينال في حيرة من أمره، بين كونه رجل دين عليه ألا يفشي أسرار الرعية وبين كونه إنساناً يجب عليه أن يحمى بريئا من عقوبة الإعدام، وكرم موسوليني الزعيم الإيطالي الشهير يوسف وهبي بجائزة "كومنداتوري" أو لقب "فارس".
لكن علوية لا تنسى هذه المسرحية ليس بسبب نجاحها، ولكن بسبب عايدة، مرضت عايدة، وكانت فرقة رمسيس مستنزفة ماليا، ولزاما عليهم العمل كل الأيام، لكن علوية استأذنت من يوسف وهبى لرعاية ابنتها، تقول: "كان كريم للغاية، وأعطاني الإذن للغياب عن المسرح"، وأسند يوسف وهبى الدور لزميلة في مسرح رمسيس، لكن الزميلة اعتذرت، فأرسل يوسف وهبى رسول لعلوية جميل، يخبرها بالحضور للمسرح، لأنه لا يمكن إلغاء العرض، فعادت علوية للمسرح، وتركت عايدة، وقدمت الدور باندماج لم تقدم مثله طيلة حياته، وقالت: "كنت عايزة أنسى مرض بنتى، وركزت كل حواسى، ونجحت ليلتها النجاح الكبير"، وبعد نزول الستارة، جريت من المسرح على البيت، ودخلت البيت، وفوجئت بأن عايدة ماتت وأنا واقفة على المسرح.
شعرت علوية بالحزن والألم، وظلت مع فرقة يوسف وهبى حتى سنة 1935، لتشارك بعدها في مسرحيات شهيرة مثل "راسبوتين" حيث لعب يوسف وهبى دور راسبوتين ولعبت علوية جميل دور الكسندرا، وكان اسمها الثالث في المسرحية بعد يوسف وهبي وأمينة رزق، حيث كانت أمينة رزق البطلة الأولى للمسرحية، و"الكونت دى مونت كريستو"، و"الوطن" و"الطلاق" و"النائب المحترم"، وغيرها من الأعمال الشهيرة.
وتم إنشاء الفرقة القومية التى ضمت كل أبناء مسرح رمسيس بمن فيهم يوسف وهبي نفسه، وانضمت علوية جميل للفرقة، لكن يوسف وهبي ترك الفرقة لأنه عرف أنهم سيعطونه مرتبا شهريا 35 جنيها فقط، لذا قررت ترك الفرقة تضامنا مع الفنان يوسف وهبي، وأعادا افتتاح مسرح رمسيس، بمسرحية رجل الساعة، وقدمت دور بهيجة، وظل الجميع في الفرقة حتى تم حل فرقة رمسيس سنة 1944.
سافرت علوية لتونس مع الفرقة القومية، وهناك سقطت على المسرح، لتكتشف إصابتها بنزيف حاد، وبعدها ظلت في فراش المرض، حتى عادت لصحتها.
ووفقا لحوار تلفزيونى لعلوية جميل، فإن أفضل ما تفخر به هو تاريخها الفني ووفائها لأستاذها يوسف وهبي، و250 مسرحية و200 فيلم، وخرجت من تجربتها بحكمة: "الحياة لا تختلف عن المسرح، إلا أن الحياة مسرح كبير، وكل واحد بيمثل دوره، مسرحية الميلاد والوفاة، يخرجها المخرج الأعظم خالق الكون، ولكل فرد ميزان لا يمكن أن يخل عنه، والأضواء هى الأحداث التي نعيشها من لحظة الميلاد حتى لحظة النهاية".
تزوجت علوية جميل من الفنان محمود المليجى، منذ عام 1939 وحتى وفاته 1983، وكانت زيجتهما من أشهر زيجات الوسط الفني، حيث اتصل بها، وطلب يدها، فضحكت، وقالت له: "الكلام دا مينفعش في التليفون"، وحضر لها لمنزلها، وطلب الزواج منها، فتزوجا وقالت له: "كان وبقى وهيفضل لحد آخر يوم في عمرى، أغلى إنسان على قلبى بعد أولادى".
وعند وفاة محمود المليجى أثناء تصوير فيلم أيوب، لم يستطيع أحد إخبار علوية جميل بوفاته، حتى حمله ممدوح الليثي وصعد به للدور الخامس حيث منزل علوية، وأخبرها إنه مريض، ولم يخبرها بالوفاة.
أصيبت علوية باكتئاب حاد بعد وفاة محمود المليجي، وكانت قد اعتزلت الفن بعد النكسة وكان آخر أدوارها فيلم زوجة من باريس من صلاح ذو الفقار ورشدي أباظة، ولم تظهر سوى فى عمل إذاعى واحد سنة 1986 حمل اسم "الشيطان والخريف" مع سناء جميل وكمال الشناوى، وظلت في عزلة حتى وافتها المنية سنة 1994، وغاب الوسط الفنى كله عن جنازتها.
رحلت علوية جميل التي برعت في أدوار الشر على الشاشة، لكنها كانت رمزا للوفاء على أصدقائها، والغريب والمحزن أن ما يذكره الناس عن علوية جميل ليس فنها، ولكن حكايات النميمة عن تطليقها لفنانة تزوجها محمود المليجي أو غيرها من هذه القصص التي تصلح لخبر "يعمل ريتش".
رحم الله الفنانة الكبيرة.