أم مليجى.. لا أعرف هل لها ابن يحمل هذا الاسم، أم أنه مجرد لقب شاع ذكرها به ولكن ما أعرفه عنها أنها كانت سيدة بدينة، تمشى بمساعدة آخرين عدة أمتار من بيتها إلى محل الخردوات الذي يملكه زوجها "جمال" فى حى عابدين. تمضي فيه وقت الصباح حتى يحين أذان العصر، فتعود إلى بيتها بعد أن يحل زوجها محلها. كان جمال في ظاهره رجلا طيبًا وقورًا، تتقدمه لحية صغيرة تكسو تجاعيد وجهه التى طبع عليه السن بصمته، يواظب على أداء الصلوات في موعدها سواء فى المسجد القريب أو في محله، ولكن أهالينا، ممن عاصروه في شبابه، يقولون إنه كان منفلتًا، يقف إلى جوار والده الحاج "هريدى" في المحل، وما أن يغلق بابه بعد صلاة العشاء، حتى يلتم جمال مع أصحابه، ويذهبون إلى محل الخمور القريب الذي يقف فيه الخواجة "زوزو"، يشترون منه ما يرغبون من بيرة وبرندى محلى رخيص الثمن، ثم يدلفون إلى منزل أحدهم يعيش فيه بمفرده، ويقضون هناك ليلتهم في احتساء الخمر، وسط دخان الشيشة المتصاعد برائحة الحشيش. قضى جمال سنوات على هذا الحال، وبين الحين والآخر، تسقط ورقة من شجرة الشلة، هناك من سافر إلى الخليج، وهناك من تزوج، وباتت سهرات الأصدقاء محرمة عليه، وهناك من ضاقت به سبل العيش، فآثر الاقتصاد فى الصرف على المزاج. الناس أحوال، وحال جمال تبدل عندما زوجه والده هريدى" من ابنة صديق عمره "طاهر".
يقول من عرفها في شبابها إنها كانت حسناء، أنيقة في مظهرها، تحرص أن تظهر ملابسها مفاتن جسدها دون أن تستفز والدها المتدين، الذى كان يشغله أمر زواجها بعد وفاة زوجته، وتحقق له ما أراد، وزوجها إلى ابن صديقه، والذى فتنه جمالها، ونعومتها، وقوامها الممشوق. لا يعرف كثيرون شيئًا عن ماضى "أم مليجى"، سوى بائعة خضراوات تفترش إحدى زوايا الشارع منذ زمن بالقرب من منزل والدها، وتروى عنها أنها كانت فائرة الأنوثة، وقعت في غرام شاب كان يقف مع والده فى محل بيع "أسماك" في حي الخليفة، تمنت أن تتزوجه، أما هو فكان يتسلى بها، وعندما علم والدها الحاج طاهر بأمر هذه العلاقة، منعها من النزول من البيت، وأسرع إلى تزويجها من ابن صديقه دون أن يعرف أحد شيئًا. تزوجت من جمال، وانتقلت إلى العيش في بيت الحاج هريدى، الذى فارق الحياة بعد سنوات تاركًا محل الخردوات لابنه الوحيد وزوجته الشابة، أما الزوجان فقد تقدمت بهما الأيام، وأضافت إلى جسد الزوجة أوزانًا، وإلى شعرها شيبًا، بينما ظل زوجها نحيلا، محتفظا بهيئته، وإن ظهرت التجاعيد على وجهه.
لا أدري هل انجبت "أم مليجي" أبناء أم لا؟ فلم أر لها نسلا، ولم يدفعنى الفضول للسؤال عن أحوالها العائلية، لأنني عندما كنت طفلا صغيرًا عرفتها سيدة متقدمة في السن، أراها هي وزوجها يتبادلان الأدوار صباحًا ومساءً في محل الخردوات، دون أن يكون لهما ولد أو بنت يحل محلهما في غيابهما. أتذكر عندما كنت طفلا، ألهو مع أصدقائى فى الشارع، اعتدنا أن نذهب إليها لشراء "البومب" فى العيد. كانت تدفعنا إلى شراء المزيد بعبارة واحدة تجري دائما على لسانها: "أضرب بومب وغيظ المسيحيين". كنا نصدقها، ونظن أن بهجتنا تغيظ المسيحيين الذين كانوا قلة من جيران وزملاء في المدرسة. وحدث في يوم عيد للمسيحيين ذهبت إليها برفقة صديق لي من الشارع، وقد هرمت أم مليجى، ولم تعد تستطيع التمييز بين شخوص الأطفال الذين يترددون عليها، سمعتها في ذلك اليوم تقول لصاحبي "أضرب بومب وغيظ المسلمين".
مرت سنوات وانتقلت أنا وأسرتي للعيش في "مدينة نصر"، نسيت "جمال" وزوجته "أم مليجى"، وتفرق أصدقائى، ولم أعد اتصل بهم. وفى يوم قادتنى الظروف إلى هناك بحثًا عن ميكانيكى يصلح سيارتى التى توقفت فجأة على ناصية الشارع. سألت عن الميكانيكي فلم أجده، وعلمت أنه انتقل إلى منطقة الحرفيين، ونظرت إلى محل الخردوات فوجدته قد أًصبح جزءا من معرض مجاور له لبيع الأثاث. سألت عن الأمر، فعرفت أن خلافًا مستحكمًا نشب بين جمال وزوجته "أم مليجى"، لم يُعرف في حينه السبب، ولم ينشغل أحد بالتدخل فيه، فقد كان الزوجان المسنان يتبادلان الشتائم والسباب، وانتهى زواجهما بالطلاق.
باع جمال المحل إلى جاره تاجر الأثاث، وترك القاهرة برمتها، وذهب للعيش مع أقارب له في الفيوم، أما أم مليجى فظلت في شقتها تعيش على مدخرات صغيرة، وما تيسر من نفقة يرسلها لها طليقها.
بقيت هكذا حتى ماتت بعد سنتين. لم يفصح جمال عن سبب خلافه مع زوجته، ولا هي أيضًا، ولكن ظل هناك من يعرف خبايا الأمور، هو جاره تاجر الأثاث الذي اقتنص منه محل الخردوات بسعر لم يكن يحلم به، ووسع به معرضه. سكت شهورًا، ثم سمعه الناس يقول: كان مفروض أن يكون جمال أعقل من كده، موضوع ابن السمَاك راح وانتهى من زمن.