هناك بعض الكيانات التي يظل حلم الانتماء والانتساب إليها أمل كبير يعيش في وجداننا ومهما طال العمر بنا، وتقلبت علينا الأيام يبقى هذا الحلم بداخلنا حيًا يتنفس حتى يأذن لنا الله بتحقيقه ولو بعد حين، وهناك بعض الأمنيات المؤجلة دون اختيار منا، أمنيات طالما سكنتنا كسكن طائر صغير حبس أنفاسه خوفًا من لحظة هطول الأمطار على جناحيه فبقى هادئًا يضممهما مضطرًا، حتى إذا ما توقف المطر وسطعت الشمس خرج بكل قوته ناشرًا جناحيه محلقًا في الفضاء محتضنًا حريته في قلب السماء.
منذ سنوات الطفولة الأولى وأنا أجاهد حتى أتعلم القراءة بمفردي، كم تلعثمت وضحكت من نفسي حين كانت تخرج الكلمات غير صحيحة في نطقها من فرط تعجلي وقلة خبرتي، كانت حروف الهجاء تجذبني إليها كما تجذب الطفل الصغير أحبال من زينة لامعة تجملت بها حجرته، يداعبها الهواء الخفيف، فيلقي بها يمينًا تارة ويسارًا تارة أخرى لتستقر بعد ذلك، فيستقر معها قلبه المملوء بالفرح والسرور.
ولمكتبة الفصل الخشبية الصغيرة المعلقة على جدار فصلي أيضًا حكاية معي، كم أحببتها وتأملتها كثيرًا منتظرة بضع دقائق بين الحصة والأخرى أتمكن فيها من مطالعة ما تحتويه من قصص شيقة تأخذني لأسبح معها أو أحلق بها بعيدًا عن الأرض.
وكانت لي مع الكتب المدرسية علاقة طريفة وعجيبة حين كنت أتسلمها أجد يداي وقبلهما قلبي يسرعان بفتحهم الواحد تلو الآخر أشم رائحة أحبار الطباعة، أتنفس عبيرها الذي بدا لي كعطر حفظ عبيره بين ثنيات الصفحات، وبقي للآن في ذاكرتي.
كم نادتني أمي وهى غاضبة متعجبة مني حين تشغلني قطعة من ورق لجزء من مجلة قديمة أو جريدة عن القيام بترتيب المنزل معها دفعةّ واحدة ففي كل مرة كانت تقع عيناي فيها على شيء مكتوب أجدني أغرق في بحاره ناسيةً ما طلبته مني، كانت مشاركتي لها لا تخلو من عتاب جزاء لما استقطعته من وقت لتلبية طلبها الذي طلبته مني ، كنت أنفصل عن نفسي وعنها وأهيم في هذا العالم الذي سيصبح يومًا ما عالمي ، يذهب عقلي ويتبعه خيالي في رحلة البحث عن شيء يشبهني، يشكلني، يحقق لي متعة الحصول على ذاتي.
في أحضان المكتبات العامة وعلى مناضدها كنت أجد ضالتي ، لم تكن أوامر أبي الصارمة تتمكن من الدخول فيها لإيقافي عن حلم راودني منذ طفولتي، حلم تم اعتراضه منه فألقى بي قراره هذا في طريق لم يكن يشبهني، وجدت نفسي أعوامًا عديدة في دراسة لعلوم أبعد ما تكون عني، نجحت نعم، ولكنني لم أتنازل عن تحقيق حلمي.
تمتد الأيادي الكريمة لتأخذ بيدي، تدعمني، توجهني، تصاحبني في رحلة التغيير وهى آخذة بيدي، تحمل مصابيحًا لتنير لي طريقي الجديد، تربت على يدي، تنصح أحيانًا، تساند دائمًا، تنجح في تمكيني من الوقوف على أولى عتباتي، تمهد لي طريقًا للسير معها داخل بلاط صاحبة الجلالة.
شكرًا لمن تعلمنا على يدهم، شكرًا لمن قاسمونا الحلم، شكرًا لمن صفقوا لنا حين خطونا أولى خطوات النجاح، شكرًا لمن وجهوا إلينا نصائحهم حين هاجرنا إليهم حاملين أمتعتنا لنقيم بالقرب من ساحتهم، شكرًا لمن أسدوا إلينا النصح رغبة منهم في دعمنا والوقوف بجانبنا دون أن يشعر بهم أحد، شكرًا لمن تابعونا واستقبلوا كلماتنا بالمحبة التي امتلأت بها قلوبهم.