تبدأ مراحل عملية الابتكار بتحديد ما هي الفرص والتحديات التي يمر بها المجتمع، وهذه مرحلة من المراحل المهمة وهي تكون تحتوى داخلها عدة مراحل فرعية مثل: مرحلة المراقبة والتحليل والاكتشاف، في هذه المرحلة يشترك المجتمع كله، بكل أطيافه وفئاته، ويكون الهدف من هذه المرحلة أن نعرف التحدي القادم -وليس الحالي فقط- الذي يمكن أن يواجهه المجتمع، وأن نبحث ونقترح له الحل الصحيح الفعال، وهنا نراقب ونحلل ونكتشف بنية التغير الإيجابي، وبنية دعم وبناء مجتمعانا، لا لكي نعري مجتمعاتنا أو لننتقد بعضنا أو شعوبنا أو حكوماتنا!
إن من أهم أسباب نجاح منظومة الابتكار في أي مجتمع، هو إنها لا تنتظر أن يكون هناك تحدي حتى تعمل وتقدم الحل، فبتطبيق هذه المنظومة، نغير ثقافة المجتمع كله إلى ثقافة المناعة، ثقافة الوقاية قبل العلاج. فلا يجب أن ننتظر إلى أن يتم ترك الشباب أو المبتكرين أيا ما كانت أعمارهم مهملين ومهمشين إلى أن ينفجروا وبعدها نتحرك، ولا يجب أن ننتظر أن تهل علينا الولايات المتحدة الأمريكية بقضايا حقوق الإنسان حتى نهتم برعاية حقوق مواطنينا، ولا ننتظر قناة إعلامية غربية لتقول ولتتكلم عن حقوق المرأة في مجتمعنا رغم أن كل أديانا السماوية أعطت المرأة حقها الذي يضمن لها العيش بكرامة وحرية تمنحها التقدم والأمان في كل مناحي حياتها، ولا ننتظر قناة مضللة أن تتحدث عن تطبيق الديموقراطية في مجتمعاتنا وكأنها الناصح الأمين، أو أن يخرج علينا مخرج (يبحث عن الشهرة بالإسفاف) بفيلم هابط ويقول أنه يطرح مشاكل المجتمع الحقيقية!!!
نحن أولى بحل مشاكلنا، أي أننا لو نراقب ونحلل مجتمعانا ومتطلباته، مثلما يتم في اليابان في مراكز تسمي بمراكز المراقبة والرصد، و عددها لا يقل عن 2000 مركز، لو أننا فعلنا دور كل فرد في المجتمع (أيا ما كان سنه طالما عنده فكر وعطاء) وجميع الفئات المهمشة، للاشتراك في صناعة الحول، لو أن دولنا تحولت حقيقي إلى دول تهتم بالابتكار والعلوم و التكنولوجيا التطبيقية، لكنا قدنا العالم بما نمتلكه من ثروات وشباب ومبدعين وعلماء وموقع جغرافي والأهم تاريخ يمكن البناء عليه لا التفاخر به. نعم لقد حاولت بعض الدول العربية عمل مراكز للمراقبة وللرصد، أطلق عليها اسم "المراصد"، هذه المراصد تم إنشاؤها لأهداف قيمة، ولكن للأسف لم يتم العمل علي تفعيلها بالشكل العلمي الصحيح، وأكثر من تم تعينه فيها موظفين تقليديين ويتبعون منظومة بيروقراطية لا تسمح للإبداع او التفكير خارج السرب.
ونتيجة لذلك فهي إلى الآن لا تقوم بدورها الصحيح، فالمراصد في الأصل هي جزء من منظومة تفكير، منظومة تحليل ودعم وبناء منظومة وقرار يستشرف المستقبل ويقدم حلول علمية قابلة للتطبيق لأي مشكلة يمكن أن تظهر في المجتمع، أو خارج المجتمع لكن يمكن أن تؤثر فيه. منظومة ليس لإدعاء أن المجتمع يمتلك المنظومة، ولا لرصد المواطن لقمعه نفسيا ومعنويا كما في بعض الدول التي تعاني مشاكل إلى الآن بعد ما أطلق عليه الربيع العربي أو لإسكات المجتمع لكي لا يطلب حقه، فالمرصد هو نقطة إنذار مبكر، نقطة وعي مجتمعي لاستغلال الثروات، وليس لتفادي الأزمات فقط بل ولاستغلالها إيجابيا كما فعلت الصين في أزمة جائحة كرونا.
بعد مرحلة الاكتشاف وتحديد التحديات، تأتي مرحلة الاستماع وفرز الإجراءات والمقترحات، مرحلة النقاش وتشجيع الافكار الابتكارية من كل المجتمع، وفي هذه المرحلة تتولد الافكار الجديدة والنماذج الأولية المحلية القابلة للتطبيق وللحل. وهنا لا بد أن نعي أن المجتمع الآن وخاصة جيل ما بعد عام 2000 لا يجب التعامل معه بالنظام القديم، نظام الدراسات العميقة والتحليلات العلمية المعقدة أو الخبرات الأكاديمية التي هي لقب دون منتج أو الخبير الأجنبي. فالمجتمع أصبح قائما على استخدام التكنولوجيا، والتحليل والاستنتاج عن طريق الطرح، وهذا ما نجح فيه شباب التواصل الاجتماعي، يصنعون النموذج الأولي، يطرحونه للاستخدام، ثم يأخذون التغذية العكسية، ثم يطورونه بشكل أكثر فاعلية. ففي الوقت الذي يكون فيه البعض مازال يحلل، ويدرس، ويبحث، ويسأل وينتظر الموافقة علي الطرح، يكون شباب التواصل الاجتماعي طرحوه بأسلوبهم وأثروا به علي المجتمع بشكل قوي وفعال، وبل ويكونوا اتجهوا إلى المرحلة التالية لتوجيه المجتمع وباقل تكلفة، ومازال الطرف الاخر يحلل وفكر وينتظر ويعمل لجان لتقيم اللجان!
أ.د. غادة محمد عامر
عميد كلية الهندسة جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا