لا شيء يهدد الطبيعة.. لا شيء يهدد استمراريتها وقوتها سوى كائن واحد صغير الحجم، لم يتسبب كائن غيره في الدمار هائل الحجم الذي سببه الإنسان للطبيعة، وفي هذا الكتاب "البيئة لغز المستقبل.. ذوبان الجليد وغرق العالم"، يحكي "أندريه سنار ماجنسون" عن الطبيعة، والبيئة، والمياه، والأنهار، والإنسان، يحكي حكاية أنهار أيسلندا التي حيكت حولها الحكايات والأساطير الإسكندنافية، وعن الجبال الشاهقة التي تنبثق منها أنهارًا ظلت تجري من قمتها لمئات بل للآلاف السنين ولم تتأثر، حتى بدأ الإنسان يكتشف قوته الجديدة؛ الثورة الصناعية، من هذه النقطة في التاريخ، تأخذ الحكاية منحى مختلف، فنذهب إلى التبت وأنهاره المقدسة التي بدأت تجف رويدًا رويدًا، وإلى الاحتباس الحراري الذي يتسبب في ذوبان ثلوج القطب الشمالي والبحيرات التي ظلت متجمدة لسنين طويلة، وبدأت تعود لحالتها السائلة، وارتفاع مستوى البحار، وما تهدد به من فيضانات وغرق لمدن كثيرة.
يقول ماجنسون في كتابه الذي ترجمه سيد عمر وصدر عن دار العربي "عند انهيار أي نظام تتحرر اللغة من كامل قيودها، وفي الفراغ، تتعلق الكلمات التي يفترض بها تغليف الواقع، وقد أصبحت غير قابلة للاستخدام، تحولت الكتب إلى أغراض عفا عليها الزمن بين ليلة وضحاها، كما اختفت التسلسلات الهرمية المعقدة تمامًا، أصبح فجأة من الصعب على الناس العثور على الوصف الملائم والتعبير بوضوح عن المفاهيم والأفكار المطابقة لواقعهم، لقد أثبت لنا العلماء أن أسس الحياة؛ بل كوكب الأرض نفسه على وشك الانهيار، إن المذاهب الفكرية الرئيسة للقرن العشرين تعاملت مع الأرض والطبيعة بصفتها مصادر لمواد خام رخيصة وغير محدودة، افترض البشر أن الغلاف الجوي سيظل يمتص الانبعاثات، وأن المحيطات ستستوعب المخلفات للأبد، وأن التربة ستجدد نفسها باستمرار حين تُمد بالأسمدة، وأن الحيوانات ستفسح لهم المكان جانبًا والبشر مستمرون بالتوسع في مناطق أكثر، إن ثبتت صحة توقعات العلماء بخصوص مستقبل المحيطات والغلاف الجوي وأنظمة الطقس والأنهار الجليدية والنظم البيئية الساحلية، فعلينا إذًا أن نبحث عن الكلمات التي بإمكانها التعبير بأفضل شكل ممكن عن تلك القضايا الهائلة، ما الأفكار التي بإمكانها التعامل مع هذا؟ ما الذي عليَّ قراءته؟ "ميلتون فريدمان"، "كونفوشيوس"، "كارل ماركس"، سفر الرؤيا، القرآن، أم كتاب "الفيدا" الهندوسي؟ كيف يمكننا ترويض أفكارنا عن الاستهلاك والمادية التي تنذر حسب كل المقاييس بأنها ستطيح بكل أنظمة الحياة الأساسية على الأرض؟
ويرى أنه خلال المئة عام المقبلة ستحدث تغيُّرات تأسيسية في طبيعة المياه على كوكبنا، ستذوب الأنهار الجليدية وسيرتفع منسوب المحيطات، ارتفاع درجات الحرارة سيؤدي إلى الجفاف والفيضانات، ستتحول مياه المحيطات إلى درجة من الحمضية لم تحدث منذ خمسين مليون عام، سيحدث كل ذلك خلال حياة طفل وُلِدَ اليوم وسيعيش حتى يصل إلى عمر جدتي البالغة خمسة وتسعين عامًا، لقد تخلت قوى الأرض الهائلة عن الوقت الجيولوجي، وأصبح التغيير يسير الآن حسب قياس بشري، التغيرات التي استغرقت مئة ألف عام في السابق أصبحت تحدث الآن في مئة عام فقط، إنها سرعة أسطورية؛ إنها تؤثر في جميع أوجه الحياة على الأرض، وتؤثر في جذور كل ما نفكر فيه ونختاره وننتجه ونؤمن به، إنها تؤثر في كل من نعرفه ونحبه، إننا نواجه تغيرات أكثر تعقيدًا ممَّا تتعامل معه عقولنا في العادة، تتخطى تلك التغيرات أي خبرات سابقة كما تتخطى معظم إمكانيات اللغة والاستعارات التي نستخدمها للتعبير عن واقعنا.
ويتابع ماجنسون "فلنقارن الأمر بمحاولة تسجيل أصوات انفجار بركاني، يصبح الصوت مشوشًا عند استخدام معظم المعدات، لن يمكن الاستماع إلى أي شيء عدا الضجيج الأبيض، بالنسبة إلى معظم الناس فإن مصطلح "التغيُّر المناخي" لا يعد أكثر من مجرد ضجيج أبيض، من السهل تكوين آراء عن الموضوعات الصغيرة؛ بإمكاننا استيعاب خسارة شيء ثمين أو حين نسمع عن إطلاق النار على حيوان ما، أو حتى حين يتخطى أحد المشروعات ميزانيته المحددة سابقًا؛ لكن حين يتعلق الأمر بشيء كبير بصورة لا نهائية، أو بشيء مقدس، بأشياء أساسية لاستمرار حياتنا، فلن يكون هناك رد فعل مماثل، كأنما يعجز العقل البشري استيعاب أمر كهذا.
ويلفت إلى إن "الضجيج الأبيض يخدعنا جميعًا، نحن نرى عناوين الأخبار الرئيسة ونظن أننا نفهم كلماتها: "ذوبان جليدي"، و"درجة حرارة قياسية"، و"تحمض المحيطات"، و"انبعاثات متزايدة"، إن كان العلماء محقين فإن تلك الكلمات تشير إلى أحداث أكثر جدية من أي شيء حدث في التاريخ البشري حتى يومنا هذا، إن كان بإمكاننا فهم مثل هذه الكلمات كليًّا فسوف يؤدي ذلك مباشرة إلى تغير أفعالنا واختياراتنا، لكن من الواضح أن 99 بالمئة من معاني الكلمات تتلاشى في الضوضاء البيضاء، ربما يكون "الضجيج الأبيض" استعارة غير دقيقة؛ إن هذه الظاهرة أشبه بالثَّقب الأسود، لم يرَ أي عالم من قبل ثقبًا أسود، والذي ربما ابتلع ملايين الشموس وبإمكانه امتصاص الضوء كليًّا، يمكن الكشف عن الثقوب السوداء عن طريق النظر إلى ما يقع وراءها، إلى السدم والنجوم القريبة.
عند مناقشة القضايا التي تؤثر في المياه على الأرض، وسطح الأرض بأكمله، والغلاف الجوي للكوكب، فإن ضخامة القضية تمتص كل المعاني الممكنة وتصبح الطريقة الوحيدة الممكنة للكتابة عن هذا الأمر هي أن نذهب لما هو أبعد منه، إلى جانبه، إلى أسفله، بحثًا في الماضي والمستقبل، بأن نكون شخصيين وكذلك نلتزم بالجانب العلمي وأن نستخدم لغة الأسطورة، ينبغي لي الكتابة عن الأشياء عن طريق عدم الكتابة عنها، أحتاج إلى العودة للوراء من أجل أن أتمكن من التقدم للأمام، إننا نعيش في وقت تحررت فيه الأفكار واللغة من قيودهما الفكرية، نحن نعيش زمن تلك اللعنة الصينية القديمة، التي على الأغلب تُرجمَت ترجمة غير دقيقة، ومع ذلك تلائم ما يحدث حاليًّا:"أتمنى لكم أن تعيشوا في زمن رائع".
ويتساءل ماجنسون: ما الكلمات التي يمكننا استخدامها لوصف الهواء الذي نتنفس، والطريقة التي تغير بها الإنسانية تركيبة الهواء؟ ما الكلمات التي تنطبق حين يقلق الناس على مستقبل المحيطات ونظامها البيئي؟ ما الكلمات التي علينا استخدامها حين نتحدث عن حرائق الغابات التي تعد رئتي الأرض؟ هل علينا أخذ كلمات من العلم أو المشاعر أو الإحصائيات أو الأديان حين نتحدث عن الأرض؟ إلى أي مدى يمكننا أن نكون شخصيين وعاطفيين؟ هل من المحتمل استخدام مصطلحات عاطفية مبالغة أو حقائق اقتصادية باردة أو استعارات عسكرية أو فلسفات معقدة؟ يمين؟ يسار؟ جميل؟ قبيح؟ نمو اقتصادي؟ هل الأرض مجرد مواد خام قليلة الاستخدام؟ أم قداسة لا نهائية؟ أم يجب على المناطق البكر أن تتحول إلى مخططات ورسومات عن قيمة الطبيعة الاقتصادية والاجتماعية؟
ويشير إلى أنه في أكتوبر 2018، أصدرت لجنة الأمم المتحدة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ "تحذيرًا نهائيًّا" كجزء من تقرير خاص عن الاحتباس الحراري، وصلت درجة الاحتباس الحراري إلى 1.5 درجة مئوية، وفي الأسبوع نفسه كان الإنترنت غارقًا بالعديد من التفاهات التي يسهل فهمها ومستعدًا لصورٍ مثيرة أكثر، كنا في أيسلندا نتجادل حول ما إن كان من اللائق أن تُعلق لوحة مُقلَّدة من أعمال "بانكسي" في مكتب عمدة "ريكيافيك" أم لا، تكلم التقرير الخاص الذي تلقى اهتمامًا طفيفًا عن محيطات العالم والغلاف الجوي بأكمله وكل دول العالم ومستقبل البشرية لمدة مئة عام مقبلة والإجراءات الضرورية لتجنب الكارثة، وصف التقرير بالتفصيل التغيرات الهائلة السرعة التي طرأت على المناخ وفي أي نقطة خلال ملايين السنين، كما شرح تأثير تلك التغيرات الضخم في آلاف الملايين من أشكال الحياة التي تعيش في ملايين الكيلومترات، لو كانت حياتي في خطر، ولو كانت الأرض وأحفادي في خطر، ألا ينبغي لي أن أعرف حجم المخاطر؟ ما الكلمات التي بإمكانها التعبير عن العالم؟
ويسرد ماجنسون جانبا من مناقشته مع "وولفجانج لوخت" الأستاذ والعالِم بمعهد "بوتسدام" لبحوث تأثير المناخ بألمانيا.. يقول: قلت له إن أمور المناخ معقدة وعلمية ومن الأفضل تركها للخبراء.
- لكنك لم تخف من انتقاد الخبراء حين تعلق الأمر بسدود الطاقة الكهرومائية ومصانع الألومنيوم المنصهر.
- هذا صحيح، لكنني على الأقل تمكنت من التجول في المنطقة وعرفت أين سيكون موقع الخزان. لقد تمكنت من حساب إنتاج الطاقة بمفردي واستنتاج كمية المنتجات غير الضرورية التي سيصنعها المصنع، مما مكنني من فهم وانتقاد حسابات المهندسين.
- ألا تثق بنفسك إذًا كي تكتب عن أكبر تغييرات في أهم أنظمة الحياة على الأرض منذ بدء الإنسانية بدلًا من رغبتك في إلقاء المسؤولية على بعض العلماء؟
- أليس بإمكانهم الكتابة عن أبحاثهم؟
- نعم، ليس بإمكانهم، لأنهم ليسوا خبراء في نقل المعلومات، ومن دون حصولهم على المساعدة في تسجيل ما يعرفونه فستذهب معرفتهم هباء، لو كنتَ كاتبًا ولم تشعر بالحاجة إلى الكتابة عن هذه القضايا، فإنك بهذا غير ملم بما يكفي من العلم ولا بخطورة القضية، أي شخص يدرك المخاطر لن يضع أي شيء آخر قبل هذا في أولوياته، إنني أشرف على فريق كبير من العلماء، نحن ننشر نماذج لأجهزة الكمبيوتر والرسوم البيانية بناءً على اتفاقيات علمية موثوقة؛ يراهم الناس فيومئون برؤوسهم ويستوعبوهم بدرجة محدودة، لكنهم لا يفهمونهم كليًّا، إنني أقدم المعلومات إلى لجان البرلمان وأشرح لهم كيف سيفقد الملايين منازلهم لو لم نفعل شيئًا، يرد عليَّ السياسيون في الحال قائلين: "لو فعلنا ما تريد فسيفقد مئات الآلاف من الناس وظائفهم غدًا".
ـ إنهم يحملونني تلك المسؤولية، لو كان السياسيون يفهمون ما أقصده لتعاون الناس في الحال لإيجاد حلول، لقد ركزنا الكثير من طاقتنا على قضايا الحرب والأسلحة المميتة أو على الوصول إلى القمر.. "في مشروع "مانهاتن" تم إرسال آلاف من الناس إلى الصحراء للعمل في الليل دون أخذ عطلات الصيف والكريسماس حتى يخترعوا القنبلة النووية، لماذا إذًا ليس بإمكاننا فعل الشيء نفسه من أجل مصلحة الكوكب؟ لو فهم السياسيون ذلك كليًّا لفعلوا شيئًا مشابهًا، كم شخصا ينبغي أن يعمل من أجل حل كارثة المناخ؟ لن تكون الحاجة إلى الملايين من الناس للوصول إلى حل أمرًا مبالغًا فيه حين يكون مستقبل الكوكب في خطر!.. إن القلق بشأن سدٍّ في مرتفعات أيسلندا شيء بسيط؛ هل من المنطقي القلق بخصوص العالم بأكمله؟ ما نوع المشكلات التي قد تنبع حين يتورط المرء في تلك القضايا، أن يتجاهل سعادته الشخصية تمامًا؟ هناك مؤتمرات ستنعقد في "كوبنهاجن"، و"باريس"، و"ريو"، و"كيوتو"، آلاف من الخبراء سينشرون تقارير ورسومًا بيانية، ما الذي يمكن إضافته؟ ألم يكن السياسيون يستمعون ويجيبون؟".
ويضيف لقد حضرت مؤتمرًا عن شؤون المناخ في جامعة أيسلندا حيث صعد خبير تلو الآخر على المنصة، تحدث عالم أحياء بحرية عن "تحمض المحيطات" وموت طيور البحر، تحدث عالم جليد عن ذوبان الأنهار الجليدية، وعالم بيئي تحدث عن تناقص التربة السطحية وعن انخفاض منسوب المياه الجوفية وتبعات نقص المياه الوشيك، ظل الخبراء يخرجون بالأرقام؛ ملايين من الناس، ملايين من فصائل الحيوانات، أسرع تغيرات طرأت منذ ملايين السنين، لم يكن هناك أي نوع من الإثارة، نظرت من حولي لأجد أن الجمهور يبدي ردود فعل محدودة؛ كانت المحاضرات أيضًا تناقش تأثير الجمارك الزراعية في صناعة الذرة، ألم ينبغِ لنا أن تنهمر الدموع من أعيننا؟ ألم ينبغِ لنا تقسيم أنفسنا إلى مجموعات عمل وتجهيز حل لتلك الليلة بالتحديد؟ في نهاية الاجتماع، جمع كل شخص أغراضه وتحدث الجميع في أمور متفرقة ثم عاد كل واحد إلى منزله كأن شيئًا لم يحدث. ربما نحن كأفراد لا نفهم العالم. أعتقد أنني شهدت نقيض هستيريا الجموع: نوع من اللا مبالاة الجماعية. حتى إن خبيرًا بالموضوع لم يتمكن من جعل بحثه أكثر حيوية. بدا كأنه غير قادر على ربط الخبرات العميقة في الغوص وقياس أعماق العالم بخيال الآخرين، والتعبير عن الأحاسيس التي نبعت من معرفته بالموت الوشيك لكل ما يحبه. ربما لا يفهم العلماء كليًّا ما يقولونه حتى يتمكن الناس من فهمهم.