الأربعاء 1 مايو 2024

مقالات29-3-2023 | 14:38

على حينِ غَفلةٍ انتبهت من غَفوةٍ قصيرة، على صوتٍ ميريّ خَشن يُردد في نبَرةٍ حاسمة مُستفسرا: «عَلى فين العَزم إن شاء الله؟» مَددت يدي لجيبي أخرجت في حَركٍة آلية محفظتي الجِلد الكَالحة، انتزعت منها البطاقة، لكنه اكتفى بحديثٍ مُوجز مع السَّائق، الذي قال في نَشوةٍ مَزهوا: «الكويت يا سعادة الباشا»، امَسكَ الشرطي بيدهِ جواز السَّفر، قَلَّبه سَريعا ، ثم قال وهو يُؤِّشر بجهاز لاسلكي: مع السلامة، في هَذه اللَّحظة كَانت السَّيارات قد تراكمت من خلفنا، فما إن مشينا حتى انزاحَ الزِّحام على مَسافةٍ قصيرة تلألأ المبنى في هَيبةٍ لا تُضاهى، وعلى امتدادِ صَحراء صُفرتها لا تنتهي، اكتظَ الطَّريق بجموعٍ غَفيرة في خَليٍط ما بين مُودِّع ومسافر شيبا وشبانا، تُلِوح أيادي الصِّغار من النوافذِ مُتهللة، تُراقب عيونهم الَّسماء حيث مهابط الطائرات، يصف كل واحد ما رآه في خُيلاٍء، أخيرا فاضت المواقف بعربات الأجرة تحمل أهلها ، امتدت الأيادي مُسلِّمة ، تعانقت الأجساد في التحامٍ طَافحٌ بحرقةِ الوَداع ، ارتجفت العيون وفاضت الصُّدور بالحَنينِ ، وتَحامل الجميع بعد جَهدٍ لتنساب الضَّحكات عفوية ، وكأنَّهم تناسوا أمر السفر والبُعاد، فعَّما قليل تَطير الطائرة وينفض المشهد.

فتلك سيرتهم معَ كُلِّ سَفرٍة لا تتبدّل، على مَقُربةٍ من صَالةِ الوصول تَراصّ المُستقبلون في تَلهفٍ ،تَشرئب الأعناق تُطاِلعُ في تَشوّقٍ القادم، وهِتافات الفَرح تَعلو تهبط في استعجال ، تَبرق العيون وسط كلمات :" حمد الله على السلامة يا حج  رجب"، تَندفع حُوم ٌمنهم في عِناقٍ محَموم ، وطَابورٌ ممتد من الأحبابِ كُلّ ينتظر دوره، تَتلاقى الأكُف في طَرقعةٍ عالية ،وأحلام بريئة تُداعِب خَيال فتى يَافع  غَاَب عن دنيا الناس، يعلو فحيح الأماني في رأسهِ ، يتأمل أمتعة القادمين ، وخيالات أصحابها تَمر أمامه في َزهوٍ ، يغمض عينيه وَكأنَّه يُؤمِّنُ على دعاء ، أن يكون له مثل ما أوتوا، أقف في مكاني ، لكن أزيز الأحلام يحدث في نفسي ما الله يعلمه، أهمس في أذن صَاحبي، فقد أصَابه  مثل ما أصابني :" متى نجد الفرصة؟، تخرج من صَدرهِ آهةٍ مُحرِقة ، يزم شفتيه يُغالِبُ حَسرةً مكروبة ، يشرق بوجههِ مُتحرِّرا بعض الشَّيء من كآبته، يُردّد في افتعالٍ :" حمد الله عسلامة يا رجاله"، صدقني في هذا المكان الملعون فقط أجد عِلَّتي هذه، اُقسِمُ في كُلّ مرةٍ أيمانا مُغلّظة وأنا اضع كِسرة الخبز اليابس على عيني ؛ ألَّا أرجع ثانيةً، لكني أعودُ، وقد جَرَّني شَيطاني  يَسوقني في أولِ رِحلةٍ للمطار.

قَديما كُنتُ أعيبُ حَسرة الزوجات، وأكره دموع الوالدين، وبُكاء الصِّغار، أصف آلامهم بالتَّمثيلِ الممجوج فمع أموال  الغربة حتما ستتبخر هذه المشاعر، ويحل محلها التَّرف والنَّعيم ، لكن ما إن شاهدت موظف الجوازات يَضرب بختمه إيذانا بالمغادرة، حتى أدركت سر تلك اللَّوعة ومُبرر الشِّكاية.

 

Dr.Randa
Dr.Radwa