في تاريخ الدراما والسينما أعمال خلدت بطولات ونضالات لشعوب المنطقة اختصت مراحل ومحطات تاريخية لا يمكن لمبدعين أن تفوتهم لحظة توثيقها ومعايشة شجعانها ورموزها.

كبرى البطولات العربية كانت حرب أكتوبر المجيدة التي خاضها الجيش المصري بتعاون ودعم عربي غير مسبوق لأجل استعادة سيناء وتحطيم أسطورة الجيش الذي لا يقهر التي روجت لها إسرائيل طيلة ست سنوات وحتى عبور أبطال مصر قناة السويس و دك نسور الجو حصون المحتل بضربة قادها الطيار محمد حسني مبارك.

في هذه الحرب وما قبلها من بطولات الاستنزاف كانت الدراما والسينما قوة مصر الناعمة في توثيق الحدث ونقله لأجيال تحفظ عن ظهر قلب تضحيات جنودها لأجل حماية الوطن واستعادة الأرض، فكانت أفلام "أغنية على الممر، العمر لحظة، الرصاصة لا تزال في جيبي، بدور، أبناء الصمت" وغيرها، وصولا إلى "الطريق إلى إيلات، الممر"، وفي الدراما تحفظ شعوب المنطقة حلقات "رأفت الهجان" و "دموع في عيون وقحة" التي خلدت دور و دهاء الأجهزة المصرية في الحرب.

في العراق؛ لم يشهد البلد بتاريخه المعاصر حربا تفتيتية مثل التي خاضها منذ ظهور تنظيم داعش الإرهابي، والذي زاد حضوره عن عقد كامل، قدم خلاله العراقيون تضحيات غير نهائية في مواجهة التنظيم وحماية أمن البلد والمواطنين منه.

وها هي الدراما في شهر البطولات، شهر رمضان المبارك، توثق هذا النضال عبر مسلسل "ليلة السقوط" والذي تابعنا منه 17 حلقة حتى الآن، تستعرض أحداث الموصل إبان سنوات سيطرة تنظيم داعش، والظروف المأساوية التي عاشها أهلها، وكيف استطاعت القوات المسلحة العراقية المسلحة بالشراكة مع قوات البيشمركة وقوات الحشد الشعبي من دحر التنظيم.

المسلسل من إخراج ناجي طعمي وتأليف مجدي صابر وإنتاج قيس الرضواني، وأنتجته مجموعة عشوب، وبطولة نخبة من الفنانين العرب والكرد، هم طارق لطفي، باسم ياخور، صبا مبارك، كندة حنا، ميلاد يوسف وذو الفقار خضر، جواد شكرجي، أحمد صيام، وغيرهم من النجوم العراقيين والكرد بطاقم عمل من أبناء العراق وكردستان.

استطاع المؤلف والمخرج وأبطال العمل نقل صورة واقعية لمأساة كافة مكونات العراق، خاصة المسيحيين والإيزيديين والشيعة، وما لاقوه من اضطهاد وقتل واستعباد ومحاولات تغيير ديانة أو ملة، وتجسيد ممارسات التنظيم الإرهابي وتفنيد أفكاره الداعية لتفتيت الدول والمجتمعات لصالح فكرة "الخلافة" بمفهوم دنيوي دنيء يسيطر على عقول قياداته، وما صاحب تلك الممارسات من معاناة المواطنين، وكيف كانت قوات البيشمركة الأبطال، مع قوات الجيش العراقي والحشد الشعبي، في مقدمة الصفوف لمواجهة تحديات جديدة غريبة على واقع العراق في ظروف معقدة.

المسلسل تجد فيه أعلام العراق وكردستان متحدة في أرض الميدان، كما تشاهد نساء مدن البلد كافة مستعدة للتطوع بين صفوف المقاتلين في مواجهة تنظيم استعبد الأسيرات وسعى إلى تشويه الشريعة الإسلامية السمحة بممارسات غير أخلاقية ضدهن، كما رصدت حلقاته فساد أركان الدولة الداعشية المزعومة من الداخل، على مستوى أذرعها الأمنية والقضائية ورموزها الفقهية، وأعتقد أن مؤلف العمل وأبطاله عايشوا ضحايا التنظيم والمدن المضارة منه و زاروا مخيمات اللاجئين في إقليم كردستان و مدنه، قبل البدء في تجسيد أدوارهم.

أحداث المسلسل تنقل واقعا مهما حول دور القيادة البارزانية في مواجهة التنظيم على الأرض، بدءا من الزعيم مسعود بارزاني في تحرير سنجار التي وعد أهلها بالقضاء على داعش وطرده منها خلال مدة وجيزة، لدرجة أنه أشرف على عملية تحريرها بنفسه وظل في الجبهات الأمامية 52 يوما تواجد خلالها بكافة جبهات الحرب، حتى أبناؤه وعائلته وأولهم مسرور بارزاني ومنصور بارزاني، ظلوا على جبهات القتال مع قوات البيشمركة رفقة العديد من قادة الحزب الديمقراطي.

كما كان الدعم التقني والفني بأرشيف وثائقي لعمليات قوات البيشمركة والجيش العراقي حاضرا خلال الحلقات، ما أسهم بشكل كبير في تقديم صورة متكاملة عن نضال هذه الفترة الصعبة في تاريخ العراق وكردستان، بما يؤكد حجم وضخامة الإنفاق على العمل ذاته.

متعة العمل في كونه دراما توثيق أبطالها من بلدان مختلفة بينها مصر، وهي الحالة التي تصل بنا إلى حقيقة إدراك المنتجين والمؤلف والمخرج أن المصير المشترك لشعوب المنطقة في مواجهة الإرهاب، تلزم حمايته عملية تكاتف الجهود المشتركة على الأرض عند مجابهة التحديات والأخطار، وهي حالة تاريخية متكررة في حروب نضالية لشعوب المنطقة ضد المحتلين وعصابات الإجرام والإرهاب.

كل التحية لمنتجي وفريق عمل وأبطال "ليلة السقوط" الذين أبدعوا في تقديم عمل متكامل يظهر حجم التضحيات وينذر بخطر حقيقي لكافة شعوب المنطقة والعالم ما لم تتحد مع بعضها البعض في مواجهة داعش والقضاء على جيوبه ومبررات وجوده، وأولها الفقر والبطالة والتطرف والشقاق.