الأحد 19 مايو 2024

إجهاض الحمل

15-2-2017 | 13:21

بقلم –  د. عباس شومان

الإنجاب أحد أهم مقاصد الناس من الزواج، فحب الولد غريزة غرسها الخالق في نفوس الخلق، ولولا ذلك لنفرت النفوس من الزواج لما فيه من تحمل المسئوليات التي دائمًا ما يبحث الإنسان عن مهرب منها، لكنه تأصل في النفس البشرية بفضل هذا الغرس الإلهي لما فيه من عمارة الكون وامتداد الجنس البشري، حتى أصبح ذلك متطابقًا مع الوارد شرعًا في قول الله تعالى: «الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا».

 

والإنجاب هبة وعطية من الرحمن، يقول تعالى: «لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ»، ولذا فقد أمرنا ربنا سبحانه بالحفاظ على هذه النعمة وصيانتها وعدم التعرض لها بالأذى، فقال تعالى: «وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً»، وعاب فعل أهل الجاهلية بإناثهم خشية العار المتوقع جلبه في زعمهم حين يكبرن، فقال تعالى: «وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ»، وقال تعالى أيضًا: «وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأيّ ذَنْبٍ قُتلَتْ».

وحفظ النفس البشرية في كل مراحلها مقصد عظيم من مقاصد الشريعة الإسلامية الغراء، وقد اهتمت شريعتنا الإسلامية بالأجنة في بطون الأمهات وما يتعلق بهم من مسائل، بداية من الصفات التي يرجى مع وجود أكبر قدر منها حدوث الحمل وسلامة المولود وصلاحيته ليكون عضوًا نافعًا لأسرته ومجتمعه، وأفاض فقهاؤنا الأجلاء في بيان ما يتعلق بمراحل الحمل في رحم الأم وما له من حقوق كالميراث مثلًا؛ حيث يحجز للحمل نصيبه على أفضل ما يتوقع من نصيب حسب نوع المولود من الذكورة والأنوثة وتعدد التوائم. ومن المسائل المتعلقة بالأجنة حكم إجهاض الحمل والتخلص منه، وقد أخبرنا الشرع - وهو ما أثبته الطب - أن الجنين يمر بمرحلتين أساسيتين في رحم الأم، تبدأ الأولى بالنطفة التي تتكون من ماء الرجل والمرأة لتتحول بعد أربعين يومًا إلى علقة تتعلق بجدار الرحم مدة أربعين يومًا أخرى، ثم تتحول بعدها إلى مضغة مقدار اللقمة التي تمضغ مدة مماثلة، ومع نهاية هذه المرحلة التي تستمر أربعة أشهر تبدأ المرحلة الثانية من مراحل الجنين؛ حيث يتكون الهيكل العظمي، ثم يغطى باللحم على عكس ما كان يتصور العلماء، وقد ثبت هذا بتطور الأجهزة الطبية وقدرتها على التصوير الدقيق لمراحل نمو الجنين، ثم بعد أن تكتمل محطات التخليق الإلهي للجنين تنمو أعضاؤه بقية مدة الحمل فيولد قادرًا على تحمل ظروف بيئته المحيطة، وقد عبر القرآن الكريم بدقة متناهية عن مرحلتي الجنين في رحم الأم وما فيهما من محطات تحول ونمو بقول الله تعالى: «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ». والمرحلة الأولى التي يمر بها الحمل تنتهي بنهاية مرحلة المضغة، وهي تستغرق أربعة أشهر كاملة، ويكون نمو الجنين خلالها أشبه بنمو النباتات، فهو كائن حي ولكن بلا روح، ولذا جُعلت مرحلة مستقلة، فإذا بلغ الحمل أربعة أشهر نُفخت فيه الروح لينتقل إلى مرحلة أخرى، وهي مرحلة الحياة البشرية، وقد حدد رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم - هذا التطور بدقة معجزة بقوله: «إن أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يُرسل إليه الملك، فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أم سعيد... ».

وقد اختلف الفقهاء كثيرًا حول حكم إجهاض الجنين عمدًا في المرحلة الأولى قبل نفخ الروح فيه؛ حيث أجازه بعضهم في الأربعين الأولى؛ لأنه عندئذ يكون مجرد نطفة، وأجازه آخرون في الأشهر الأربعة التي تمثل المرحلة الأولى كلها وليس في الأربعين يومًا الأولى فقط، وهؤلاء انقسموا إلى ثلاثة آراء؛ حيث يرى بعضهم جواز إجهاضه ولو بلا سبب أو عذر، وبعضهم يشترط العذر للجواز كضعف صحة الأم أو كثرة العيال وضيق ذات اليد، ولم يكتفِ بعضهم بمجرد العذر وإنما اشترطوا وجود ضرورة للإجهاض كخطورة الإبقاء عليه على صحة الأم أو رجحان عدم قدرتها على ولادته بسلام. أما فيما بعد هذه المرحلة؛ أي إذا بلغ الجنين أربعة أشهر، فهناك اتفاق بين الفقهاء على عدم جواز إجهاضه مطلقًا لا لعذر ولا لضرورة، وقد أعياني البحث عن إيجاد فقيه ثقة أباحه لضرورة بعد نفخ الروح فيه حينما كنت أعد كتابًا عن إجهاض الحمل، فتعجبت من هذا الإجماع الذي لم يعتبر الضرورة على قوة تأثيرها وإباحتها للمحظور شرعًا! ولعل اتفاق الفقهاء على تحريم إجهاض الحمل إذا بلغ أربعة أشهر يرجع إلى أنه أصبح مكتمل الحياة البشرية وإن بقي غير مكتمل النمو، وفي إجهاضه في هذه المرحلة قتل للنفس. وقد سألت بعض الأطباء المتخصصين حينئذ عما إذا كانت هناك مرحلة ما ينصحون فيها الأم بعدم إجهاض الحمل، فقالوا إنه إذا كبر الحمل فننصح الأم بعدم الإجهاض؛ لأنه في هذه الحال يكون أخطر على حياة الأم من عملية الولادة نفسها.

ومع تقديرنا لإجماع الفقهاء على عدم جواز إجهاض الجنين بعد بلوغه أربعة أشهر، فإن هذا الإجماع في حاجة لاجتهاد جماعي جديد؛ حيث إنه من المعلوم أن الطب تطور كثيرًا في زماننا، وأصبح تقدير المخاطر أيسر وأكثر دقة وإن بقيت الأعمار من قبل ومن بعد بيد الله عز وجل، فإن استطاع الأطباء التأكيد على أن بقاء الجنين الذي تجاوز أربعة أشهر يمثل خطورة حقيقية على حياة الأم، وأن الغالب أنها ستموت عند الولادة طبيعيًّا أو بتدخل طبي، لكن غلب على ظنهم في الوقت نفسه إمكانية إجهاض الجنين قيصريًّا مثلًا مع انتفاء الخطورة على حياة الأم؛فيرجح في هذه الحال القول بجواز الإجهاض؛ حيث إن حياة الجنين غير متيقنة، فقد يموت في بطن الأم وقد يموت عند ولادته، بخلاف حياة الأم، فهي حياة كاملة مستقرة، وإنقاذ الحياة المستقرة أولى من اعتبار حياة غير مستقرة، فضلًا عن كون حياة الجنين وحياة أمه معًا عرضة للهلاك إذا تُرك الجنين حتى وقت ولادته. وإنما ذكرت أن المسألة تحتاج إلى اجتهاد جماعي؛ لأن المنع مجمع عليه من السابقين، والإجماع لا يرتفع باجتهاد فردي وإنما بإجماع مثله، وإن كان ثمة خلاف بين العلماء في إمكانية انعقاد إجماع على خلاف إجماع سابق، كما أن المسألة لا تحسم بنظر الفقهاء وحدهم، بل الأصل فيها رأي الأطباء الحاذقين في صنعتهم، وغالب الظن عدم إمكانية اتفاقهم على تقدير الخطورة على الأم إن بقي الجنين، وإن أمكنهم التوصل إلى إمكانية إخراج الجنين مع عدم الإضرار بالأم، وعليه تبقى أحكام الإجهاض على ما أورده الفقهاء، وهو الجواز قبل نفخ الروح والمنع بعده، إلى أن يحدث هذا الاجتهاد المنشود، ولعله يكون قريبًا.