بقلم – حمدى الكنيسى
أعلم أنه قد لا يقبل هذه «العبارة»!! وإن كنت أعلم أيضًا أنه فى أعماق أعماقه يكاد يستغيث فعلًا، فلقد أقبل متحمسًا على تحمل مسئولية «أمين عام جامعة الدول العربية»، ولديه خبرات دبلوماسية وسياسية وعربية، ولديه أحلام وطموحات قوية، ولديه رؤية حقيقية للواقع العربى المهترئ، الذى يحتاج للعمل العاجل قبل أن ينزلق إلى مزيد من الضعف والهوان.
لكنه.. وقد مارس مسئوليته، وتعامل مباشرةً مع النظام الذى يحكم العمل فى الجامعة العربية اصطدم بالحقيقة المريرة، التى تقول إنه لا صوت يعلو على صوت التربيطات والحسابات القطرية والشخصية والحساسيات القبلية التى تجعل.. مثلًا .. دويلة صغيرة تفرض إرادتها على قرار الجامعة.. ولا يملك سيادة الأمين العام إلا صياغة القرار المريب وإعلانه بينما قلبه يتمزق ألمًا، وعقله يترنح قلقًا، وضميره يهتز خجلًا.
ولكن.. لماذا أكتب اليوم عما يعانيه ويستغيث منه «الأمين» أحمد أبوالغيط؟!
وهو الذى اقتربت أنا شخصيًا منه، وتعاملت معه، ولمست بنفسى عميق ثقافته وعريض خبراته، ودماثة خلقه؟ إن ما دفعنى إلى ذلك.. يا حضرات.. يا إخوتى العرب - يا من كنا نغنى وننشد باسمهم: «أمجاد يا عرب أمجاد»، ما دفعنى إلى تفجير هذه القضية، هو أن الرجل فيما يبدو قد أعيته الحيل فى مخاطبة ومناشدة قادتنا وزعمائنا الأشاوس للإسراع بمواجهة الواقع الخطير ومقتضياته العاجلة، دون أن يلقى استجابة حقيقية، حيث ما زالت الآراء والأفكار الخاصة بمن يملكون التأثير ودفع الأمور إلى حيث يشاءون بغض النظر عما تتطلبه الأحداث والتطورات والتداعيات الخطيرة.. هى صاحبة الكلمة الأخيرة!
هكذا لم يجد أبو الغيط أمامه إلا أن يخاطب «رؤساء المجالس والبرلمانات العربية» فى مؤتمرهم باعتبارهم التجسيد العملى للشعوب وتطلعاتها ومن ثم ربما يلهمهم الله فى بلورة رؤية عربية شاملة لمواجهة أشرس التحديات، التى تتربص بالأمة العربية، ثم يعتمدون وثيقة ترفع إلى القمة العربية، التى تستضيفها الأردن فى مارس القادم، «لعل وعسى» خاصة من السيد «نتنياهو» لم يعد يجد أى حرج فى إعلان تجاهله ورفضه لقرارات الأمم المتحدة، ومجلس أمنها وصولًا إلى إجهاض حكاية دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس الشرقية!! وبالمناسبة قد ينجح هذا «النتنياهو» فى دفع الرئيس الأمريكى «دونالد ترامب» للإسراع بتنفيذ وعده ينقل السفارة الأمريكية إلى القدس، و «طظ» وألف «طظ» فى العرب وقضيتهم الفلسطينية الرئيسية، ويا ويلهم وسواد ليلهم لو أنهم احتجوا - ولو بصوت هامس - على قرار حظر سفر أبناء الدول العربية والإسلامية السبع إلى أمريكا، ويا ويلهم وسواد ليلهم لو احتجوا على الربط بين «الإرهاب والإسلام»، كما يحدث أحيانًا فى تصريحات «ترامب»، علمًا بأن ذلك قد يمتد إلى تصريحات ومواقف قادة اليمين المتشدد الذين يتأهبون لاقتناص الحكم فى فرنسا وغيرها من الدول الأوربية!
والمؤكد أن بقية تفاصيل الصورة التى توضح حقيقتنا العربية، يعرفها «أبوالغيط» جيدًا كما يعرفها مثلًا وزير الخارجية الأسبق «نبيل فهمي»، الذى يقول بصريح العبارة: «إن العالم العربى ككيان سياسى على حافة الهاوية ولن يكون له أى وزن».. «إنه كيان فى خطر»، ويعيش أبو الغيط هذا الواقع المحتمل بشدة، كما يعيش واقع «الجامعة العربية»، التى صارت مشلولة كما قال بصريح العبارة أيضًا الرئيس اللبنانى العماد ميشيل عون!
ولعل الأمين العام تذكر ما تعرض له أمناء سابقون لهم خبراتهم الكبرى وشخصياتهم الجديرة بالتقدير والاحترام، لكنهم لم يملكوا فى النهاية أمام واقع وتركيبة الجامعة كهيئة تقودها «الأنظمة الحاكمة»، إلا أن يرضخوا ويوقعوا على قرارات كانت أبعد مما يتصورون!
تذكر - مثلًا - كيف أعلن الأمين الشهير جدًا صاحب المواقف المحترمة قرار مجلس الجامعة بالموافقة على أن يشن حلف الأطلنطى بقيادة أمريكا وفرنسا حربًا دموية ضد ليبيا لإسقاط معمر القذافى، وتفتيت وتمزيق الدولة الشقيقة، وأغلب الظن أنه - الآن - يلعن اليوم الذى أوقعه فى ذلك الموقف!
كذلك أتصور أن أحمد أبو الغيط يتذكر بنفس المرارة والقلق كيف أن أمينًا عامًا آخر يحظى بكل الاحترام والتقدير لخبراته السياسية والدبلوماسية والقانونية، إلى جانب إيمانه المطلق بالقومية العربية، وجد نفسه هو الآخر مضطرًا إلى القبول باستبعاد الشقيقة «سوريا» من جامعة الدول العربية لتكون النتيجة المأساوية بسقوطها فى حرب أهلية تشعلها وتغذيها دول لها مقاعدها فى الجامعة المرتبكة؟
هكذا تراكمت الحقائق المريرة، والمواقف المحزنة لمن سبقوه، فتأكد الأمين العام أحمد أبو الغيط أنه ليس أمامه إلا أن يستغيث برؤساء المجالس والبرلمانات العربية داعيًا الله ومتوسلًا إليه أن يتذكروا أنهم يمثلون شعبهم العربى «فقط»، ومن واجبهم أن يتفقوا جميعًا على وثيقة محددة حاسمة تلزم «الأشاوس» فى قمتهم القادمة بالارتفاع إلى مستوى المسئولية التاريخية، وتجاوز كل ما أعاق وأضعف العمل العربى المشترك، وأدى إلى التشرذم والانهيار حتى استهان بأمتهم «اللى يسوى وما يسواش» وصارت «كيانًا مهددًا بالضياع» علمًا بأنها الفرصة الوحيدة والأخيرة لكى تنجو الأمة من هذا المصير المحدق بها، وحتى لا تتحول كلها إلى «أندلس جديدة» يغرق أبناؤها فى البكاء على اللبن المسكوب، يوم لا يجدى البكاء، ولا يفيد الدعاء.
عزيزى الأمين العام «المستغيث» أحمد أبو الغيط:
عفوًا إن كنت قد عبرت عن حقيقة ما يدور فى خلدك، وما يشعر به قلبك، وما يخشاه عقلك، ولعلك تتشبث - مثلى - بالأمل فى أن تكون كلماتك التى بلغت درجة الاستغاثة، كما وجهتها للسادة البرلمانيين العرب قد مست شفاف قلوبهم، وحركت مكنون ضمائرهم وذكرتهم بأنهم يمثلون شعبهم العربى، الذى يعانى أشد المعاناة مما يتعرض له حين يرى من يسقط يوميًا من صفوفه قتلى وجرحى بأيدى عرب مثلهم، كما يرى دولًا شقيقة تسقط فى منزلق الانهيار والتمزق وكأنهم مقدمة مخطط الشرق الأوسط الجديد، الذى يدفع «الكيان العربي» كله نحو الهاوية.
هذا هو الأمل فى رؤساء المجالس والبرلمانات العربية بأن يبدأوا بإقناع - أو دفع - قادتنا الأشاوس فى قمتهم القادمة إلى تغيير مسمى وواقع جامعتنا الموقرة لتصبح «جامعة الشعوب العربية»، التى لا مجال فيها لتربيطات «أنظمة».. واتفاقات «كتل».. و»قيادات» دفعنا ثمنها الباهظ.. الرهيب!!