كان الفارابي يحلم بتنظيم العالم تنظيمًا شاملًا يجعل منه دولة مثالية على غرار جمهورية أفلاطون أو مدينة صالحة عاقلة، تكون رياسة الحكم فيها لفيلسوف صفت نفسه حتى كاد أن يكون نبيًا.
فقد أهتم "الفارابي" اهتمامًا بالغًا بموضوع المدينة الفاضلة، فقد ألف فيها كتبًا بالأسماء الآتية: الأول، آراء أهل المدينة الفاضلة. والثاني، السياسات المدنية. والثالث، الجمع بين رأي الحكيمين "أفلاطون وأرسطو"، فهذا الكتاب الذي يسخر منه الكثيرون يعتبر في نظرنا كتابًا حاسمًا في بيان بعض آراء الفارابي نفسه. والسؤال الآن، ما هي ماهية المدينة المفاضلة في نظر الفارابي؟ الإجابة في ثلاث كلمات هي "ضرورة الاجتماع البشري".
عزيزي القارئ الإنسان من الأنواع التي لا تنال الأفضل إلا بالتعاون، فكل واحد من الناس يحتاج في قوامه إلى أشياء كثيرة لا يمكنه أن يقوم بها كلها هو وحده، بل يحتاج إلى قوم آخرين يقوم له كل واحد منهم بشيء معين، لذلك لا ينال الإنسان الكمال إلا بالاجتماع والتعاون ولهذا أضطر الناس إلى الاجتماع والتعاون.
فالاجتماع عند الفارابي ظاهرة طبيعية وليس شيئا مصطنعا يقوم على القهر والقوة كما يقول السفسطائيين، والتعاون الإرادي – لا الغريزي– هو أساس هذا الاجتماع فهو يشبه المدينة بنظام البدن، يفرق بين تعاون الأعضاء وتعاون البشر، فالتعاون الحقيقي عند الفارابي لا يصدر عن عوامل طبيعية فطرية وإنما يصدر عن هيئات وملكات ارادية. والسؤال هنا، هل هناك نوع للاجتماع حدده لنا الفارابي؟
عزيزي القارئ إذا كان الإنسان اجتماعي بالطبع، وينزع بالفطرة إلى العيش في جماعة من بني جنسه حتى يحصل على كل سعادته في الدنيا وفي الآخرة، فإنه من البديهي أن هذا الميل إلى الاجتماع بالآخرين سوف ينجم عنه اجتماعات او مجتمعات إنسانية مختلفة، ومن هنا يثور التساؤل: أي نوع من هذه المجتمعات يصلح لتحقيق الكمالات الإنسانية؟ لكي يجيب الفارابي علي هذا السؤال فإنه يُقسم المجتمعات البشرية بحسب روابطها إلى قسمين رئيسين: المجتمعات الكاملة، والمجتمعات غير الكاملة او الناقصة.
أما المجتمعات الكاملة فهي على ثلاثة انواع: العظمى: وهي المعمورة وهي سكان الأرض جميعًا. الوسطى: وهي أمه معينه او شعب معين. الصغرى: وهي المدينة أو الدولة. أما المجتمعات الناقصة: المجتمعات الناقصة او غير الكاملة وهي القرية التي اعتبرها الفارابي في خدمة المدينة، ثم أقسام المدينة نفسها وهي المحلة ثم السكة وأخير المنزل.
عزيزي القارئ لما كانت الغاية القصوى للإنسان هي التعاون علي نيل السعادة، فخير المدن هي المدينة الفاضلة، كما أن الاجتماع الذي يتعاون فيه على نيل السعادة هو الاجتماع الفاضل، والامه التي تتعاون مدنها كلها على ما تنال به السعادة هي الامه الفاضلة وكذلك المعمورة الفاضلة هي التي تتعاون فيها الأمم جميعا على بلوع السعادة، أي أن بلوغ السعادة هو الهدف الأخلاقي الذي من أجله سعى الفارابي إلي تأسيس المدينة الفاضلة، ويري الفارابي أن الناس قد دعتهم الضرورة الطبيعية إلى الاجتماع.
ولهذا فإن المدينة الفاضلة التي ينشدها الفيلسوف العربي هي نموذج لمجتمع إنساني راق يؤدي كل فرد فيه وظيفته الخاصة التي تلائم كفاياته، وأفراد المجتمع كأعضاء البدن. والسؤال الآن، ما هي أركان هذه المدينة؟
قبل أن نُجيب عن التساؤل السابق، نلاحظ أيها القارئ الكريم أن الاخلاق والسياسة في رأي الفارابي متصلان ومرتبطان، لأن المدينة الفاضلة أشبه ما يكون بالبدن التام الصحيح الذي تتعاون أعضاؤه كلها.
كما أن البدن فيه عضو واحد رئيس وهو القلب، وله أعضاء تقرب مراتبها من ذلك الرئيس، وأعضاء آخر أقل منا فأقل، ثم هكذا إلى أن تنتهي إلى اعضاء تخدم ولا ترؤس أصلا، كذلك المدينة اجزاؤها مختلفة بالفطرة متفاضله الهيئات، وفيها إنسان هو رئيس وآخرون أقل منه لكل واحد منهم هيئة وملكة يفعل بها فعلا ما هو مقصود ذلك الرئيس وكذلك تشبيه المدينة الفاضلة بالموجودات الطبيعية من حيث الاختلاف، والارتباط، والتدرج، والترتيب.
أي انه كما يقول الفارابي في (السياسة المدنية ص84) شبيهة بمراتب الموجودات الطبيعة التي تبتدئ من الأول وتنتهي إلى المادة الأولي والأسبقيات، وهكذا فنسبة الرئيس إلي المدينة كنسبة السبب الأول إلي الموجودات ونسبة القلب إلى أعضاء البدن، ونسبة القوة الناطقة إلى قوة النفس الأخرى. والسؤال الآن، هل ترك لنا الفارابي سمات لهذا الرئيس؟ وهل هناك مضادات للمدينة الفاضلة؟ وهل كانت المدينة الفاضلة التي كان يحلم بها الفارابي قريبة من التصور الأفلاطوني، أم بعيده عنه؟ ستكون اجابتنا عن هذه التساؤلات هي موضوع مقالنا القادم.