الجمعة 28 يونيو 2024

دردشة عن انحسار الإقبال على السينما


فراس الور

مقالات11-4-2023 | 21:56

فراس الور

هل ماتت السينما كليا؟ هل انتهى عهدها من الحياة الترفيهية لإنساننا المعاصر؟ هل فقدت بريقها ورونقها وأصبحت مبانيها أما قديمة و مهجورة أو على لائحة المباني التي يجب إزالتها عند الهيئات الحكومية، هل مع تَغَيُرْ مفاهيم الصناعة الترفيهية باتت تاريخ قديم لا يعرف عنها شيئ الجيل الحالي ولن يعرفها القادم و لن يعرف قيمتها؟ وهل ستنتهي كليا و تصبح موجودة فقط في صفحات التاريخ؟ أم هل السينما كيان يحتضر ويلتقط أنفاسه الأخيرة و يمكن إنعاشه قبل فوات الأوان؟

هذه الأسئلة بدأ يطرحها نقاد كثيرون بمحاضراتهم و نداواتهم في مصر وفي أكثر من مهرجان حول الوطن العربي منذ عقد من الزمن إذ شعر الكثيرون أن التحديات العصرية باتت اكثر مما تستطيع تحمله در العرض، فلذلك شهدت دور العرض انخفاض ملحوظ بالإقبال مما تسبب بانخفاض عددها بمصر عموما و انحسار وجودها فقط بالقاهرة، فَتَضَمًنَ تقرير حديث للجهاز المركزي للتعبئة العامة و الإحصاء معلومات بينت انخفاض كبير بدور العرض في مصر بين سنة 2013 و 2016 و خلو 8 محافظات من دور العرض معظمها في الصعيد، فانخفضت في هذه الفترة من 269 الى 65 دار فقط، أي أن الانخفاض كان بنسبة 75.8 بالمئة بالرغم من ارتفاع عدد المشاهدين في نفس الفترة من 7929 الى 10474، ويتبين لنا بالبراهين الثبوت والإحصاءات الرسمية تأثر السينما سلبا من المنافسة التي توفرها أساليب البث الحديثة، وسنمر على بعض منها بهذا المقال وكيف أثرت على هذه الصناعة وأفقدت الجمهور الحماس لها وكم هي مهددة بالفعل من التطور الحديث لعالم المرئي والمسموع.

فبين عصر ذهبي شهدته هذه الصناعة الكلاسيكية أيام زمن الفن الجميل و التي صنعت لها نجوما خصيصا و بريقا راقيا لهم نشأ عنه وأسسَ لمفهوم الفن السينمائي والفنان، ونشأ عنها إعلام خاص لمتابعة أخبار السينما وأهلها، فانبثق منذ أولى أفلامها الناطقة في أول عقد الثلاثنيات من القرن الماضي العلوم المختلفة بالإخراج السينمائي الذي كان يحاكي الإمكانيات المتاحة بذاك الوقت في مصر، وبين عصرنا الحالي بالوطن العربي الذي يشهد على انهيارها، تتوضح مشروعية الأسئلة التي تُطْرَحْ عن مستقبلها وماذا سيحل بأمرها.

في حقيقة الأمر السينما شهدت تحديات هددت بانخفاض جمهورها الكبير منذ عقد السبعينيات، فشهدت هذه الفترة تتطور تكنولوجي أسس لمفهوم الترفيه المنزلي home entertainment، فصدر في نوفمبر من عام 1975 من شركة سوني أول جهاز فيديو لأشرطة تسجيل مرئي و مسموع باسم بيتاماكس Betamax  في أمريكا، وكان مرفق معه جهاز تلفاز ملون قياس 19 بوصه، و هذه الأشرطة (أو كاسيت) كانت عبارة عن عبوات بمواصفات 15.6x9.6x2.5 سم، و تحتوي على فيلم (مرئي ومسموع) بمواصافات 12.7مم، و بالرغم من انه اصغر حجما بكثير إلا إن آلية عمل الكاسيت تشبه آلية عمل الرول السينمائي لجهاز العرض السينمائي من حيث انه يحتوى على بكرتين للف الفيلم، فمثلما يدخل الفيلم من جهاز العرض أثناء العرض بالسينما و يخرج من مكان آخر من الجهاز ليلتف على بكرة فارغة، كان داخل الكاسيت بكرتان صغيرتان، ويمكن لف الفيلم من وإلى البكرتين وهو داخل جهاز الفيديو من خلال أوامر تقديم الفيلم أو إعادة (ترجيع الفيلم الى بدايته)، فالذي يريد مشاهدة الفيلم يضغط على أمر إعادة الفيلم الى نقطة البداية، انتشر من هذا الكاسيت عدة أنواع وصلت مدت عرضها إلى 5 ساعات، ومع انطلاق هذا الجهاز بالسوق ابتدأ عصر جديد من الترفيه لم تشهد له البشرية مثيلا من قبل، فانتشرت أشرطة البيتامكس والفيديوهات بصورة كبيرة بأمريكا بالمنازل لينطلق في عام 1976 اشرطة مع فيديوهات منسافة لها من نوع VHS، وهذه الأحرف الإنجليزية هي اختصار Video Home System وتعني نظام الترفيه المنزلي، وهذه الأشرطة هي للشركة الصانعة Victor Company Japan وأطلقتها بأمريكا أيضا في نفس السنة، ودخلت هذه الشركات التي تحمل أجهزتها أنظمة عرض منزلي متشابهة بمنافسة شرسة وكبيرة مع البيتاماكس الى أن استحوذت انظمة ال VHS ببلوغ عام 1980 على 60 بالمئة من سوق الولايات المتحدة الأمريكية، أصبحت هي المسيطر على عصر الأشرطة المسجلة، انتشر مصطلح VCR في هذه الفترة أيضا ويعني Video Cassette Recorder وبالعربي مسجلات الأشرطة فهذا كان عصرها بامتياز.

 

مع فَوْرَةْ هذه الأشرطة التي انتشرت بالبيوت انتشرت معها إمكانيات تسجيل الأفلام الروائية والبرامج الترفيهية والمنسابات الاجتماعية بأنواعها في العالم، فبعد صدورها بمدة من قبل شركات الإنتاج أصبحت الأفلام الروائية الطويلة بمتناول الأسرة بالمنزل، فحتى لو شهدت أول صدورها مُدَدْ عرض زمنية بالسينما أصبحت العائلات لا تعتمد على الذهاب للسينما لرؤية كل فيلم جديد يصدر كما كان المعتاد، بل أصبحت تنتظر هذه الأفلام حال انتشارها بمحلات تأجير الأشرطة التي باتت موجودة خلال الثمانينات والستعينيات بوفرة بكل بلد حول العالم تقريبا، فمع صدور الأشرطة و الفيديو تجاريا تطورت معها لغة تجارة خاصة بها زادت من ريعها المادي وطورت من أساليب تسويقها، فدخلت أبعاد جديدة تجارية لتسويق الفيلم السينمائي، فالموزع لم يعد يعتمد على توزيع الفيلم بالسينما فحسب، بل أصبح يأخذ بعين الاعتبار إمكانيات تسويقه تجاريا عن طريق توفيره ببلدان أصبحت تسجل آلآف النسخ منه عبر الشرطة الفيديو ليكون موجود بوفرة بالأسواق وبالمنازل.

مما لا شك به أن هذه الحركة التجارية أثرت على جمهور السينما، فأصبحت مشاهدة الفيلم ممكنا جدا بالمنازل وعلى أوقات فراغ الناس، فالرَيْع المادي أصبح أضخم للفيلم بهذه الفترة، ولكن مما لا شك به أن السينما تأثرت بنسبة مُعَيًنَة من هذه التكنولوجية، و بالرغم من ذلك بَقِيَتْ صامدة تتحدا هذه التجارة الضخمة إلى أن أتتها ضربة قاضية أخرى بسبب تطور خصائص وإمكانيات الحاسوب المنزلي و اللاب توب في النصف الأخير من فترة التعسينيات، و بلمحة سريعة حيث لا مجال لنا هنا للتوسع كثيرا بالشروحات لأن للموضوع تفرعات كثيرة، و لكن الحاسوب الشخصي المعروف بالإنجليزية بال PC اي ال Personal Computer كان موجودا تجاريا بوفرة منذ عصر الثمانينات ولكن إمكانياته كانت محدودة وبمرجياته كانت محدودة جدا، أنا شخصيا أخدت دروسا في الصفوف المتوسطة في المدرسة التي كنت ادرس بها على جهاز  Apple II GS حيث كان احدث جهاز بالسوق حينها و حيث وفرته شركة ابل للسوق في عام 1986، و كان مفخرة شركة ابل في ذاك العصر، درسنا عليه عمليات برمجة كطلاب كجزء من باب تعريفنا على ما كان يستجد بعالم الحواسيب، و أذكر تماما انه في عام 1992 و التي هي سنة تخرجي من المدرسة و مع تطور الحواسيب كان في مختبرنا أول إصدارات طابعات الليزر، و كانت لدى الطابعة الواحدة القدرة لتلقي أمر طباعة من اكثر من حاسوب شخصي بمختبر الحاسوب بالمدرسة، قبل هذه الطابعات كانت الطابعات بطيئة لا توفر عامل السرعة المطلوبة للمراسلات التجارية، و لكن كان هذا العالم يشهد تطورات سريعة جدا، و كان مرفق مع هذه الأجهزة البدائية  بالإضافة الى ذاكرتها الثابتة البسيطة في داخلها ذاكرة متنقلة توضع بالجهاز و تسحب منه اسمها قرص مرن أو فلوبي دسك  floppy disk 5.25 انش، و كان يتمتع بذاكرة إضافية بسيطة، وحتى حينما شهد الفلوبي تطورا طرحت شركات الحواسيب قرص مرن بسعة 1.44 ميغابايت فقط.

لم تنتشر هذه الأجهزة ببرمجيات وإمكانيات كبيرة إلا حينما ابتدأ عصر معالجات microprocessor البنتيوم لشركة إنتل Intel بالأسواق، فأصبحت عمليات الحاسوب اسرع، وابتدأ عصر انتشار الحاسوب مع البنتيوم واحد او  Pentium oneفي عام  1993حيث استطاعت الشركات الاستفادة منه بصورة كبيرة، وأصبحت الطابعات اسرع و ممكنة تجاريا اكثر، وأول حواسيب تضمنت محرك القرص المدمج او cd drive تم تصنيعها و شحنها في عام 1996 من قبل شركة فيجتسو، أما بأميركا فتم تداول الحواسيب مع محركات الأقراص المدمجة في عام 1997، و اتسوعبت هذه الحواسيب اقراص الDVD حيث كانت تستوعب كمية معلومات كبيرة، ومن هنا ومع ثورة الإنترنت في الألفية وسرعة انتشار عالم المواقع الإلكترونية تلقت السينما الضربة التي فعليا هددت كينونتها، فانتشرت تجارة الأفلام عبر الأقراص المدمجة، ومع الانتشار الضخم للسي دي CD وتجارة الأفلام، حيث أصبح اقتناء الحواسيب بالشركات و المنازل سهل جدا، و مع تقدم إمكانياتها، ومع انتشار أجهزة تشغيل السي دي او CD Player أيضا أصبحت السيطرة على سرعة انتشار الأفلام صعبة جدا، فأصبحت تجارة مربحة حول العالم للجميع، و بناءا على سهولة اقتناء و مشاهدة الفيلم بالمنزل ابتدأت مع الألفية عصر انهيار دور العرض السينمائي، والأمر لم يتوقف عند هذا الحد، فهددت السينما كارثة كبيرة القت بظلالها على المنتجين الذين حاولوا التمسك بها، فتطور مميزات الهواتف الذكية مع انتهاء أول عقد من الألفية، حيث أصبحت تتمتع بمميزات تسجيل مرئي و مسموع لساعات طويلة، و مع تطور ذكائها انتشرت ظاهرة تسجيل الفيلم السينمائي أثناء عرضه ثم بثه على قنوات ومواقع بصورة غير قانونية على الإنترنت، مما جعل الجمهور يفقد حماس مشاهدة الفيلم في دور العرض السينمائي.

والقشة التي كسرت ظهر الجَمَلْ كانت المنصات على الإنترنت والاشتراكات التي توفر الترفيه المنزلي بأسعار رخيصة جدا، فتشتري هذه المنصات حقوق بث الأفلام وتعرضها لتثري مفهوم الترفيه المنزلي، بل اصبح من الممكن مشاهدة أفلامها على أجهزة الموبايل الذكية، وعلى سبيل المثال لا الحصر بعض من هذه المنصات والاشتراكات بي أي إن Bein ونتفلكس وشاهد، وبواقعية ومع كل أسف لا أرى متنفس للسينما لتحافظ على نفسها و دورها التقليدي بإبهار المشاهد بأجوائها المعتادة، أنها تلتقط أنفاسها الأخيرة وسط عدم الاكتراث لأمرها، فالترفيه المنزلي والتقدم التكنولوجي سرق جمهورها بلا راحة، بل ولدت عدة أجيال تربت على تكنولوجية الترفيه المنزلي وعلى الحاسوب وما يوفر وعلى الاستمتاع بالمنصات ولا تعلم شيئ عن روعة دور العرض وتاريخها و كيف كانت يوما بالماضي ملتقى عشاق السينما و الدراما لعقود طويلة.

السؤال الذي يطرح نفسه بقوة، هل سنستيقظ يوما عما قريب لنتفاجئ بأخبار خلو دور العرض من الزوار؟ هل مع نهاية عامنا الحالي ستنخفض دور العرض بالعالم العربي اكثر؟ هل سيؤثر هذا على مفهوم الإنتاج السينمائي وبالتالي على المهرجانات الفنية والسينمائية؟ هل سيأتي يوما ستنتهي بها المهرجات بمفهومها الحالي وستتغير؟ هل سيكون العرض السينمائي لأفلام فقط بالمهرجانات ثم سيتم بيعها للسوق بصورة تجارية لعدم إقبال جماهيري على دور عرض؟ ربما الأيام ستجيب هذه الأسئلة.

الاكثر قراءة