الخميس 28 نوفمبر 2024

صفحات من كتاب عبدالحليم حافظ (9) .. أغنيات حليم الوطنية تحولت إلي دروس سياسية شعبية

  • 8-9-2017 | 13:49

طباعة

أعد الكتاب للنشر : محمد المكاوي

مهما اختلفت تفاصيل قصص الحب التي عاشها العندليب الأسمر عبدالحليم حافظ بعدما اختلف اسم بطلاتها أو جنسياتهن ... مصرية .. مغربية.. لبنانية.. تونسية.. جزائرية.. فإنه في كل نهاية يكتشف أنهن يحببن عبدالحليم المطرب لا عبدالحليم فقط..

وفي حياة العندليب قصة حب لم يعرفها أحد.. بدأت عندما التقي بـ «دوفي» وهي زوجة سابقة لعمدة إحدي الولايات في أمريكا، في حفل أقامه في شقته مهندس مصري مقيم هناك، وتعارفا في تلك الليلة كانت أمريكية لها عيون الهنود وبشرة في لون التفاح وأنف أرق من عقرب الثواني وشفتان أشهي من كل منتجات جروبي.. ولفهما الحديث مع رقصة التانجو.. ومع نهايتها ودع حليم «دوفي» بعدما اعطاها رقم تليفونه وعنوان الفندق الذي يقيم فيه وبعد منتصف الليل بساعتين فوجئ بها تطلبه في غرفته لتقول له: I LOVE YOU لكن «ترنك عاجل» من مجدي العمروسي في القاهرة يقطع المكاملة ليطالبه بضرورة العودة إلي القاهرة لأن 10 ملايين عربي في انتظار حفلته بعد يومين وأن تذاكر الحفل بقاعة الاجتماعات الكبري بجامعة القاهرة قد نفدت بالكامل كما أن التليفزيون قد باع شرائط الحفل قبل تسجيلها والإذاعة حجزت ممراتها الهوائية، وأنهي العمروسي مكالمته قائلاً: حليم - أرجوك لا تتأخر...

خانة اليك!

عبدالوهاب هو: توبة وظلموه وأهواك وأنا لك علي طول وأنت قلبي وقل لي حاجة ولا تكذبى!

والموجي هو: ظالم والليالي ونار وجبار وحبيبها ورسالة من تحت الماء!

والطويل هو: أبوعيون جريئة وبحلم بيك وفي يوم في شهر في سنة وبعد إيه وبتلوموني ليه وراح وسمراء!

وبليغ هو: تخونوه وأنا كل ما أقول التوبة وعلي حسب وداد قلبي وزي الهوا وموعود وحاول تفتكرني!

والنتيجة: ظلموه كموعود وكرسالة من تحت الماء كلا تكذبي كسمراء!

الجديد هنا ليس المضمون والمعاني.. وإنما مجرد تغيير في الجمل الموسيقية وأشكالها وأناقتها وتوزيعاتها..

تغيير لا يحطم أسوار دائرة الحب المصفحة.. التي لا يمكن أن يخرج منها جديد لأنها قديمة قدم الوجود ذاته!

أراد أن يدخل القصة القصيرة في كلمات الأغنية.. فوجد أن هذا صعب.. أراد أن يستغل الترجمة للأغنيات العالمية فوجد أن هذا مستحيل فجري إلي الأناشيد الوطنية فوجد أنها تخرج من اللسان ولا تحترم العقول بل وعثر في أرشيف سنة 1900حيث كنا نقع تحت احتلال بضع كتائب انجليزية كسيحة ويحكمنا سفير لو بقي في بلاده لما نال أكثر من منصب باشكاتب.. رغم كل هذا عثر علي نشيد وطني يقول:

أجمد جيوش في الدنيا جيوشنا!

وطرأت له فكرة الأغنية السياسية!!

فالسياسة شئ والوطنية شيء آخر.. السياسة عقل والوطنية قلب..السياسة فكر والوطنية حماس..السياسة هدوء والوطنية ضجيج .. السياسة علم والوطنية طيش..السياسة تقدم والوطنية اندفاع!!

فكر عبدالحليم أن يصبح هو المطرب السياسي!

وبديهي.. أن يكون المطرب السياسي في مصر أخطر من الكاتب السياسي.. لأن عدد الجهلاء عندنا أكثر كثيرا من الطرش «!» لأن الأغنية تنقش علي الهواء وفي الفراغ، والمقال يكتب علي الأوراق بالأحبار وعمرنا ما سمعنا أن هناك أزمة في استيراد الهواء!

وبدأت التجارب.. بحكاية السد.. وذكريات.. ثم بالأحضان ثم بلدي يابلدي والمسئولية ومطالب شعب ويا أهلا بالمعارك وصورة وأحلف بسماها!

ونجحت الفكرة نجاحاً باهراً وتحدثت أغنيات صلاح جاهين والطويل لأول مرة في تاريخ الغناء العربي- عن الحصار الاقتصادي والتنمية الزراعية وحقوق العمال والتصنيع الثقيل وتعمير الصحاري وتخضير القري ومد الكهرباء وفتح المدارس، وحاربت الكسل والرجعية والانتهازية ودعت إلي مجانية التعليم.. والتسليح ومتابعة العلوم واللحاق بعصر الصواريخ!

وتجلت قدرة عبدالحليم في حساسية «التوصيل» للمعاني والألحان للناس وطبعها في أذهانهم ووضعها علي ألسنتهم «!».

فتحولت تلك الأغنيات إلي دروس سياسية شعبية تخاطب العقول والقلوب وأصبحت شيئا علميا وفنيا لا يمكن منافسته!

وصارت أغنية عبدالحليم هي رمز لاحتفالات ثورة يوليو!

وفي واحد من أزهي اعيادها.. حدثت مفاجأة!

كتب الشاعر الفيلسوف كامل الشناوي قصيدة بكلمات بللورية عنوانها «علي باب مصر» لحنها الموسيقار محمد عبدالوهاب بحروف موسيقية أحلي من العسل تكاد تكون في حد ذاتها معجزة لا تقل عن معجزة صوت أم كلثوم الذي تشدو به!

ولكن الموسيقار الذكي لم يهتم بعمله فقط بل اهتم أيضا بعمل الجيران فهو يؤمن بأنه لا يقلل من قيمة سيارة الإنسان إلى أن يشتري جاره سيارة أجمل!

وبدأ حفل يوليو!

كان «البروجرام» ينص علي أن تغني كوكب الشرق نشيدها الوطني.

ثم يترك المسرح لعبدالحليم ليقدم وصلة غنائية ثم تعود لتحتل المسرح وتقدم أنجح أغنيات التاريخ الفني المصري وأكثرها ذيوعا وانتشارا والتي تم فيها لقاء القمة لأول مرة تحت عنوان «إنت عمري»!

وفي الساعة الثانية عشرة مساء ظهرت أم كلثوم لتغني القصيدة الوطنية «باب مصر» واستمرت تجلجل بها حتي الساعة الثانية ثم قررت فجأة تحت إلحاح وضغط الجماهير أن تغني إنت عمري لوجود وفد من إحدى الدول الصديقة كان من المقرر أن يسافر علي طائرة الوداع في الرابعة صباحاً إلا الربع يودعهم إليها السيد رئيس الجمهورية وكان من المتوقع أن يؤدي هذا إلي النتائج التالية:

- تستمر أغنية «إنت عمري» بالطبع حتي الرابعة صباحاً.

- يغادر بعدها الوفد الرسمي المسرح بصحبة السيد رئيس الجمهورية إلي المطار ليلحقوا بالكاد موعد الطائرة.

- ينتهي الإرسال التليفزيوني والإذاعي قبل ظهور عبدالحليم علي المسرح.

- يكبس النوم علي المستمعين في كل مكان ومعني هذا أن يغني عبدالحليم لنفسه أو لأعضاء الفرقة الموسيقية علي اسعد الظروف.

وبكي عبدالحليم حافظ.....

وفي الرابعة صباحا جمع ما تبقي له من أعصاب وظهر علي المسرح.. وألقي كلمة خطابية صغيرة قائلاً:

- لقد أرادت السيدة أم كلثوم والموسيقار عبدالوهاب تشريفي بإنهاء حفل بدآه معا بروائعهما ولست أدري ما إذا كان هذا تشريفا أم مقلباً!

ورفع المايسترو علي إسماعيل عصاه

وعزفت موسيقي كمال الطويل...

بلدي يابلدي.. والله أحلويتي يابلدي!!

فنسي اعضاء الوفد الدبلوماسي موعد الطائرة.. وطار النوم من عيون الناس وسهر التلاميذ مع عبدالحليم حتي السادسة صباحا أغلقوا بعدها أجهزة الراديو والتليفزيون وتوجهوا إلي مدارسهم ليغنوا فورا في طابور الصباح:

بلدي يا بلدي والله إحلويتي يابلدي!!

وتصالح التلميذ والأستاذ والمثل يقول لك: تخاصمني تقطع راسي.. تصالحني تجيب لي راس منين!

وياعزيزي.. ياقارئ سطوري.. أعترف لك أني أقع الآن في خانة اليك!

فمازال عندي كثير من الأفكار ولم يبق إلا القليل من الصفحات...

عندي حكاية شاعر يعرف كيف يخاطب العامل الذي يتشعبط بطرف أصبع قدمه على سلم قانون التأمينات، والفلاح الواقف بتذكرة علاج في طابور طبيب الانكلستوما عندي حكاية طويلة عنه في أول يوم دخل فيه شقة عبدالحليم وقال له:

أنا أشعر بأنه لا يمكن أن أتفاهم في هذا القصر إلا مع الخدم!

وعندي قصة لقائه بوكيل وزارة المعارف «نجيب هاشم» بعدما أصبح سفيرنا في إيطاليا ذلك الرجل الذي خلع عبدالحليم من وظيفته الأبهة كمدرس للموسيقي بمدرسة بنبا قادن الابتدائية قائلاً:

-إنت مرفوت!

وحينما أعد الرجل بإيطاليا حفل استقبال لعبدالحليم قال له الأخير:

- فاكر.. لما رفتني!

- فرد الرجل بحكمة:

- لو لم أرفتك لأصبحت مجرد مدرس يضيع نصف عمره في البحث عن «كوسة» ليأخذ تقدير ممتاز.. لولاي لما كنت عبدالحليم حافظ!!!

وعندي ... وعندي... وعندي

فقد كانت مشكلتي قبل أن أبدأ هذا الكتاب هو ماذا أكتب .. فصارت الآن مشكلتي ماذا لا أكتب!

وكلما اقتربت السطور من أن تنتهي أشعر بالفشل رغم علمي بأني لم أنشر قصة عبدالحليم بل أنشر ما لم ينشر في قصة عبدالحليم!!

أشعر بالفشل في العثور علي عبدالحليم الحقيقي.. كما فشل كل الباحثين قبلي عن هذه الحقيقة وكما سيفشل كل الباحثين بعدي لا لشيء إلا لأن الاخلاص في البحث هو سبب الفشل!

فأنت لو بحثت في نفس أي إنسان عن الغرور لوجدته.. عن الحقد لوجدته.. عن الحب لوجدته عن الجنون لوجدته.. عن الضعف لوجدته، أعظم خطأ بعد هذا أن تقول عن هذا الإنسان إنه .. مغرور .. أو حقود.. أو مجنون!

فحقيقة الإنسان هي الصفة الغالبة فيه.. وهي التي تطفو علي سطح النفس البشرية بغير بحث.. أو استخلاص أو استنتاج.

بعدها وبها تستطيع أن تحكم عليه..

ولا تنس قبل أن تحكم أن تسأل نفسك ماذا لو كنت أنت عبدالحليم حافظ؟

أما أنا فلو كنت عبدالحليم.. لما كفاني الغرور ولا حتي جنون العظمة!

لو نطقت بصوته.. لطلبت رمال الصحراء لتفرش لي أرض المدينة..

لو ذقت آلامه.. لما نام أهل الكهف من ضجة آهاتي!

لو كانت لي حياته.. لكتبتها علي جلد النمور.. وسن الفيل .. وريش النسور.. ونقشتها في معابد القدماء ورويتها في قصور العظماء ودرت بها في القري والكفور والنجوع والغابات والولايات وبعثت بها إلي قبائل ما قبل الغزوات .. أكتبها بقلم رواه عطر الورد..

وصفحات أسقيها من ثدي العمر..

ولا أتعب ولا أزهق.. ولا أمل.. زمان قالوا للكاتب ارتاح.

قام وقف!

    أخبار الساعة

    الاكثر قراءة