الخميس 27 يونيو 2024

الكنيسة خدمة روحية أم مادية؟

9-9-2017 | 15:14

بقلم –  جمال أسعد

يطالب الجميع بتجديد الخطاب الديني ونحن نقول إنه الفكر الديني وليس الخطاب، فالفكر الديني هو التفسير والاجتهاد والتأويل للنص الدينى الذى هو الفكر الإلهي، حيث إن النص الديني واحد لا يتغير، ولكننا نرى تعدد المذاهب والطوائف في كل الأديان وذلك نتيجة لهذه التفسيرات ولتلك الاجتهادات البشرية التي تقبل الصواب والخطأ والتي تتأثر بالزمان والمكان والرؤية الذاتية خاصة لو أصاب التفسير والاجتهاد المصلحة الخاصة للطائفة أو للجماعة، وتجديد الفكر الديني هنا وإن كان قد بدأ قاصدًا الفكر الديني الإسلامى.

هنا نقول إن الهدف والمطلوب هو تجديد الفكر الديني الإسلامي والمسيحي أيضاً، حيث إنه بالطبع ولوجود حساسيات طائفية موروثة وحيث إن المطلب كان من رئيس الجمهورية في مناسبة دينية إسلامية فكان الطلب للأزهر، حتى إننا قد رأينا في حديث البابا تواضروس في مجلة المصور في عيد القيامة الماضي يقول إن الفكر والخطاب الديني المسيحي لا يحتاج إلى تجديد.

والتصور هنا أن عملية التجديد هذه مقصود بها مواجهة الفكر الديني الذي يبرر العمليات الإرهابية نتيجة التفسيرات وتأويلات لا تتفق مع المقاصد العليا للدين، ولكن التجديد هنا بهدف إيجاد فكر دينى يتوافق مع الثوابت والمقاصد العليا للأديان بقيمها ودعوتها بقبول الآخر قولاً وعملاً حتى لو اختلف الدين فاختلاف الدين إرادة آلاهية وحكمة سماوية أرادها الله.

وهذا لا يعني رفض الإنسان للإنسان، كما أن وجود هذا الفكر الأحادى غير السليم لا يجعل رفض الآخر بين دين ودين آخر، ولكننا نجد عبر التاريخ رفض الآخر المشترك فى نفس الدين، فنرى الأرثوذكس والكاثوليك والبروتستانت ونرى السنة والشيعة لا يرفضون بعضهم البعض فقط بل للأسف يكفرون بعضهم البعض فما بالك بالآخر المختلف دينياً.

وهنا نقول إن تجديد الفكر الديني المسيحى مطلب هام لابد منه بعيدًا عن المراوغات والتبريرات التي تزعم التمسك بالدين وبالنص وبثوابته، كما أن التجديد مطلوب لسبب هام وهو أن الفكر الديني في أي دين هو من أهم العوامل التي تشكل ثقافة المصرى سواء كان مسلمًا أو مسيحيًا، ولذا فهذا الفكر بذاك التأثير يصبح مؤثرًا في تشكيل العلاقات بين المصريين في كافة المجالات العامة المصرية مما يساهم سلبًا وإيجابًا في قبول الآخر المصرى، والجانب الآخر وهو مهم أيضًا هل الفكر الدينى داخل الكنيسة الواحدة يتفق ويتناسب مع صحيح النص الإنجيلى؟ هل السلوكيات والممارسات داخل الكنيسة الواحدة تتسق مع القيم الروحية للمسيحية أم ماذا؟ من المعروف أن المسيحية هى ديانة روحية تركز على الجانب الروحي أكثر من الجوانب المادية، كما أن المسيحية تعتمد في تفسيرات النص على الروح وليس الحرف، ولذلك فتاريخ المسيحية وتاريخ الكنيسة المصرية دائماً روحى لا يعنيها المال من قريب أو من بعيد حتى كانت الكنيسة المصرية حتى عهد البابا كيرلس تعتبر من أفقر كنائس العالم بل رأينا فى عهد كيرلس- عبدالناصر أن الكنيسة عجزت عن توفير مرتبات العاملين بالكاتدرائية حتى إن عبدالناصر كان قد تبرع بمبلغ لسد هذه الرواتب، كما أن الدولة قد تبرعت بمبلغ قياسى فى ذلك الوقت لبناء الكاتدرائية الحالية فى الأنبا رويس ولتنظيم هذه العملية المادية وحتى لا يهتم (الأكليروس) رجال الدين المسيحى بهذا الجانب المادى والمالى على حساب الاهتمام بالروحيات وخلاص النفوس حيث إن مهمتهم الأساسية عند رسامتهم كرجال دين هى الخدمة الروحية فقط، ولذلك وجدنا قانون الكنيسة ومنذ البداية يهتم بتنظيم هذا الجانب، فالأكليروس مهمتهم الأساسية الجانب الكنسى الروحى والعلمانيون من غير رجال الدين هم المنوط بهم الإشراف المالى والإدارى على الكنيسة، حتى لا يطغى الجانب المالى على الروحى فتنحرف الخدمة إلى طريق غير طريقها، وهذا القانون وذاك التاريخ مستمد من نصوص الإنجيل، حيث إن هناك نصوصاً تقول «المال أصل لكل الشرور إن ابتغاه قوم ضلوا عن الإيمان وضربوا أنفسهم بأوجاع كثيرة» «سهل على أن يدخل جمل من ثقب إبرة على أن يدخل غنى ملكوت السموات» «لا نستطيع أن نعبد الإلهين إما الله إما المال»، كما أن السيد المسيح كان قاطعاً حاسماً فى هذه القضية، فالمرة الوحيدة التى لا تتوافق مع منهجه وممارساته كانت عندما دخل الهيكل ووجد فيه الباعة يبيعون ويشترون غضب على غير عادته وفتل حبلاً وأخذ يضرب الباعة ويقلب موائد الصيارفة قائلاً «بيتى بيت الصلاة يدعى وأنتم جعلتموه مغارة للصوص»، كما أن فكرة الرهبنة فى القرن الرابع كانت ناتجة عن تأثر أنطونيوس أب ومؤسس الرهبنة بنص إنجيلى «إذا أردت أن تتبعنى فبع كل أموالك واتبعنى» ومع ذلك فما حدث وماذا يحدث الآن؟ منذ عهد البابا شنودة الثالث تغير الحال وأصبحت الأمور غير الأمور، وكان هناك فكر دينى يعتمد على رؤية خاصة للبابا شنودة مستغلاً شخصيته وكارزميته وسيطرته على مجمع الأساقفة الذى هو فيه أو المتساوين وليس رئيساً أو أباً للمجمع، وهذا الفكر وتلك الرؤية لم تصب الجوانب المادية والمالية فقط ولكنها امتدت إلى أمور أخرى مثل مشكلة الطلاق والزواج الثانى للمسيحيين أما فى الأمور المالية حجم البابا ما يسمى بلجان الكنائس من العلمانيين وهم المشرفون على الجانب المالى والإدارى ففى كثير من الأماكن تم رسامتهم شمامسة وهى رتبة كنسية تجعلهم خاضعين لرجل الدين «كاهن أو أسقف»، وهناك الكثير من الأيبارشيات لا توجد بها لجان كنائس أصلاً، كما تم تهميش المجلس المالى والذى يشرف مالياً على ماليات وأوقاف الكنيسة وهو جهة رسمية ينتخب بإشراف الدولة، فلا يوجد أى دور لهذا المجلس بل تم تحجيمه حتى إنه لم يجتمع مرة واحدة فى كل الأيبارشيات تاركاً التركة والجمل بما حمل للأسقف الذى لم يعد يجد من يحاسبه من العلمانيين. تواكب مع هذه السياسة توسع الكنيسة فى إنشاء كنائس فى كل أنحاء العالم تمشياً مع حركة الهجرة للخارج التى جلعت المصريين مهاجرين سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين بعيداً عن استغلال ذلك لتصوير الأمر أن هجرة الأقباط نتيجة للتضييق أو الاضطهاد. هذا التوسع الذى ضم مصريين ذوى مستوى مادى ودخول مرتفعة ونظراً لطبيعة الخارج المختلفة عن الداخل وجدنا أن الإغداق المادى والمالى من هؤلاء على الكنيسة يريح ضمائرهم وهذا يمكن أن يكون الطريق الذى يربطهم بالكنيسة وبالدين.

حتى إننا نجد أن كنائس الخارج هذه قد أصبحت البقرة الحلوب لكل أساقفة الكنيسة فلا يوجد أسقف لا يذهب إلى الخارج طوال العام ناهيك عن مندوبيهم الدائمين من الكهنة المرضى عنهم المقيمين إقامة دائمة بالخارج. ولذلك وفى هذا الإطار نجد أن الكنيسة قد أصبحت الآن هى أعلى كنائس العالم بلا منافسة فى ظل أوضاع لا علاقة لها بقانون الكنيسة ولا بدور لجان الكنيسة والعلمانيين ولا بدور المجالس الملية. فماذا كانت النتيجة وما هو المردود؟

النتيجة والمردود هو سيطرة المادة والمادية على الجوانب الروحية والدينية والكنسية. فرجل الدين جاء من أجل الخدمة الروحية ورعاية شعبه روحياً، أما الماديات فالله هو الرازق والواهب للعمل الدينى. فلا عمل دينى وروحى ينظر إلى المادة لأنها ليست تجارة مادية، ولكنها رعاية روحية. ولذلك نجد رجال الدين والأساقفة لا هم لهم غير المادة والماديات. نجد كل أسقف يهتم بجمع المال وبناء الأبراج السكنية لبيعها والمستشفيات الاستثمارية للربح والكسب ولا علاقة لها بالمرضى الفقراء كذلك إنشاء المدارس الأجنبية لنخبة النخبة وليس لغير القادرين، وكذلك الحال فى اقامة المشروعات للاستثمار مع العلم أن فلسفة المسيحية هى رعاية الفقراء والمساكين، حيث إن السيد المسيح قد اعتبر هؤلاء الفقراء هم إخوته وكل من يعمل معهم خيراً فقد وصفه بالمسيح نفسه كل أسقف لابد أن يكون لديه مزرعة طريق إسكندرية الصحراوى أملاك دولة. ولا نتكلم هنا عن الرفاهية الشخصية التى تجاوزت الظروف الاقتصادية للمواطن الفقير. هل هذا فقط؟ نجد أن الكنائس أى خارج صحن الكنيسة التابع للكنيسة قد تحولت إلى سوبر ماركت تبيع كل شىء وأى شىء.. ولا نعلم هل هذا هو دور الكنيسة أم هو الوضع الذى رفضه السيد المسيح عندما وجد مثل هذه الأشياء وتلك الممارسات في الهيكل؟ وبالرغم من ذلك وكل ذلك نجد الكنيسة الآن تفرض رسوماً باهظة ومرهقة على الخطوبة والزواج وفتح الكنيسة للصلاة حتى الصلاة لذكرى الموتى قد أصبح الآن برسوم. حتى إننا نجد الشاب غير القادر على مصاريف الزواج ويجد رسوم الكنيسة عبئاً عليه بدلاً من أن تكون الكنيسة رحيمة عليه حسب المفهوم المسيحى، وحتى الأديرة التى يسكنها الرهبان الذين اختاروا الرهبنة كاختيار شخصى يخصهم وحدهم إيمانا منهم بنكهة الرهبنة والتزاماً بقانونها الذى يلزم الراهب على الموت عن العالم حتى إنه يتم الصلاة على الراهب عند دخوله الرهبنة بصلاة الموتى بإعتبار أنه مات عن العالم، وكذلك الفقر الاختيارى أى أن الراهب لا يملك ولا يرث ولا يورث وكذلك الطاعة والنسك والصلاة. كل هذه الالتزامات ليست مفروضة على الراهب ولكنه هو من اختار ذلك. وعلى ذلك نجد الرهبان والأديرة التى مات ساكنوها عن العالم وترفعوا عن المادة والعالم المادى يعودون إلى العالم بشكل غريب. وجدنا كثيرا من الأديرة فى مشاكل مع الدولة لأنها قامت بالاستيلاء على آلاف الأفدنة من أراضى الدولة. مشكلة دير أبو فانا بدير مواس بالمنيا. مشكلة دير الفيوم الذى حصل على أربعة آلاف فدان من الدولة بالإيجار ويريد ألف فدان أخرى . مشكلة دير الأنبا أنطونيوس بالبحر الأحمر وجدنا الرهبان الذين ماتوا عن العالم يتصدون للأجهزة وينامون تحت البلدوزارات حدث هذا فى البحر الأحمر وفى الفيوم حتى إن هناك راهبا مازال بالسجن لاعتدائه على السلطة .

نحن هنا لا نقصد الإساءة لأحد ولا للكنيسة فالكنيسة هى جماعة المؤمنين الذين يحكمهم الكتاب المقدس وتاريخ الكنيسة وتراثها الذى لا يختلف عن صحيح النصوص الإنجيلية وليس التراث البشرى المرتبط بمكان وبزمان تجاوزهما الواقع الحالى. الكنيسة ليست رجال الدين . فهذا مفهوم أوربى قروسطى أدى إلى الاستبداد الدينى . الخلاف مع سلوكيات رجل الدين ليست خلافاً مع الكنيسة على الإطلاق ولا علاقة لها بإيماننا المسيحى الذى لا يحده ولا يحدده رجل دين فهى علاقة ذاتية بيننا وبين الله فاحص القلوب والكلى . ولكن ما نريده هو تجديد الفكر الدينى. بما يطابق قيم ومفاهيم ومقاصد وروحيات المسيحية التى حددها وعاشها السيد المسيح على الأرض. ارعوا شعبكم اهتموا بالدين والروحيات اتركوا الماديات الفانية وتمسكوا بالباقيات السامية .

أرشد الله الجميع إلى طريق الحق وهدانا إلى الطريق الصحيح السليم الذى يقبل الآخر ويحب العدو ويبارك اللاعن ويحسن إلى البغيض ويصلى من أجل الذى يسىء إليه هذه هى المسيحية وقيمها السامية . حمى الله مصر وشعبها العظيم .