الأحد 5 مايو 2024

لماذا عاد طه حسين من بعثته مبشراً بالتنوير.. وعاد سيد قطب من أمريكا إرهابيًا؟ أسرار بعثة «أمير التكفير» الغامضة!

11-9-2017 | 14:51

بقلم –  أحمد النجمى

السؤال الذى يحمله العنوان الفرعى لهذه السطور لافت للنظر، باعث للتفكير فيه بدقة.. ربما لأن أحدًا لم يطرحه من قبل: إذا كان «محمد علي» قد سن نظام البعثات التعليمية لأوربا قبل مائتى عام تقريبًا، لكى ينقل العلم والثقافة من الغرب إلى مصر التى كانت فى حالة نهوض شامل آنذاك، وظلت هذه البعثات تمثل جسر ثقافة بين مصر والغرب حتى العقد الثانى من القرن العشرين حين تم إرسال د. طه حسين إلى فرنسا فعاد منها مبشرا بالتنوير، فكيف تحولت البعثات إلى تصنيع عقلية إرهابية كعقلية سيد قطب فى أواخر الأربعينيات حين ابتعث إلى أمريكا؟ سؤال يستحق التوقف أمامه والبحث عن إجابة شافية له، وهو ما أنجزه الكاتب الكبير والباحث المدقق والمؤرخ «حلمى النمنم»، وزير الثقافة، فى كتابه الصادر مؤخرًا، تحت عنوان «بعثة سيد قطب.. الوثائق الرسمية».

ولحلمى النمنم كتابان مهمان سبق صدورهما عن سيد قطب.. فأما الكتاب الأول فهو «سيد قطب وثورة يوليو» الصادر عن مكتبة مدبولى، والثانى «سيد قطب.. سيرة التحولات» عن «كرمة للنشر والتوزيع»، وقد أحدث الكتابان حين صدورهما أصداء واسعة وتناولهما الباحثون والكتاب فى مقالات ودراسات شتى.. هذا - إذن - ثالث كتب حلمى النمنم عن سيد قطب، ليصبح النمنم صاحب نصيب الأسد فى المؤلفات التى تناولت الأفكار الإرهابية، التى نشرها سيد قطب فى مصر وتجاوزت الحدود المصرية إلى العالمين العربى والإسلامي، وقد صدر هذا الكتاب - بعثة سيد قطب.. الوثائق الرسمية - عن دار الكتب والوثائق القومية مؤخرًا فى أكثر من ٢٥٠صفحة من القطع المتوسط.

وقد اختار النمنم أن يُكتب اسمه على الغلاف مقترنًا بكلمتي: تقديم ودراسة.. إذ إن الكتاب، الذى يقع فيما يزيد على ٢٥٠ كما ذكرنا ينقسم إلى قسمين، أولهما فى نحو ٧٠ صفحة، يمثل الدراسة التى استخلصها النمنم من الوثائق الرسمية لسيد قطب خلال بعثته إلى الولايات المتحدة، أما بقية الكتاب - قرابة المائتى صفحة - فيمثل الوثائق، التى تنشر لأول مرة موثقة ومنظمة وبالتفصيل، وهى بدورها تشكل ٢٣ فصلًا من الوثائق، إذ يندرج تحت العناوين الثلاثة والعشرين مئات الوثائق، لكن هذه الوثائق تم تصنيفها فى ٢٣ فصلًا أو موضوعًا بعد أن قام النمنم بتصنيفها وترتيبها.

ونعود إلى السؤال الفارق، الذى طرحه حلمى النمنم فى دراسته وتقديمه لكتابه القيم هذا، وهو كيف عاد طه حسين مثقفًا كبيرًا وعلمًا من أعلام الفكر من بعثته إلى فرنسا - على الرغم من العقبات، التى اكتنفت هذه البعثة - وكيف عاد سيد قطب منحازًا إلى الإرهاب، بل أصبح «المنظر الأكبر لتكفير المجتمع وجاهليته، ومن ثم شن الحرب على المجتمع وضرورة تدميره» على حد تعبير النمنم؟

بعثة قطب إلى أمريكا يكتنفها الغموض، فقد سافر إلى هناك - سنة ١٩٤٨ - «عجوزًا وتجاوز مرحلة الطلب» والتعبير أيضًا للنمنم، من متن كتابه، إذ إن قطب من مواليد ١٩٠٦، أى أنه ابتعث إلى أمريكا فى الثانية والأربعين من عمره، ونمضى مع النمنم فى شكوكه المشروعة حول بعثة الإرهابى سيد قطب إلى أمريكا فيقول وهو - يقصد قطب - لم يكن مطالبًا بالحصول على شهادة علمية معينة، ولم يطالب بأى شىء عقب عودته، كل هذا كان يمكن أن يمر ويبتلعه كثيرون، وقد فعلوا ذلك مع سيد فور عودته، إذ رحب كثيرون بعودته، لكن هذا الترحيب الذى أشار إليه حلمى النمنم لم يكن فى موضعه.. فقد رحب المثقفون بعودة قطب الذى كان مثقفًا فاعلًا قبل سفره إلى أمريكا، بل كان متطرفًا فى انفتاحه الفكرى حتى أنه كان رئيسًا لتحرير مجلة «التاج المصري»، التى كانت لسان حال المحفل الماسونى الأعظم.. فقد كان سيد قطب ماسونيًا قبل سفره لأمريكا.. وكان روائيًا وناقدًا أدبيًا له شأنه.. فما الذى حدث له فى أمريكا؟!

لم يمر سوى عامين على عودة قطب من أمريكا حتى كشف وجهه الحقيقي.. صار منظرًا للإرهاب، بعد ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢ - يقول النمنم فى متن كتابه - راح يتوعد الجميع فى كتاباته، ويحرض عليهم، من كتاب ومفكرين وفنانين وشعراء وسياسيين، لاحظ أيها القارئ الكريم أن معظم هؤلاء كان قد كتب عنهم قبل بعثته لأمريكا أفضل الدراسات النقدية، وكانت تربطه صداقة بعدد منهم.. ثم انقلب على الضباط الأحرار ومجلس قيادة الثورة، وارتمى فى أحضان المرشد الثانى للجماعة الإرهابية «حسن الهضيبي» وجماعته.. من هنا راح الجميع يتهامسون ويتساءلون حول تلك البعثة، لماذا ذهب وماذا فعل هناك ومن كان وراءه؟!

يروى النمنم أن الزعيم «جمال عبدالناصر» حين قرر الإفراج الصحى عن سيد قطب سنة ١٩٦٤ - فى قضية ١٩٥٤ - وذهب قطب إلى بيته فى «حلوان»، زاره عدد من كبار المثقفين ليهنئوه بالخروج، كان من بينهم شيخ الرواية العربية (نجيب محفوظ)، الذى ذهب إليه - فى تقديرى - مدفوعًا بالرغبة فى رد الجميل، إذ كان قطب على النقيض من أفكاره التكفيرية.. يروى النمنم قائلًا فى كتابه.. (عاد نجيب محفوظ من زيارته له يائسًا ومحبطًا منه، ومن إمكانية عودته مرة ثانية إلى الحياة الأدبية) ٥٥، ولم يمر عام على تلك الزيارة حتى جاءت قضية التنظيم الإرهابى الشهير للجماعة المحظورة تنظيم ١٩٦٥ الذى استهدف اغتيال جمال عبدالناصر وقيادات الدولة المصرية وتدمير القناطر الخيرية وتدمير هيئة الطاقة الذرية بأنشاص، وكان رأس هذا التنظيم الإرهاب «سيد قطب»، الذى كان قد تحول إلى أمير للتكفير ومنظر أساسى لجميع الأفكار الظلامية فى مصر والعالم العربي!

كيف حدث هذا؟ السر فى (البعثة الأمريكية)، التى تمثل الحلقة المفقودة فى حياة أمير التكفير سيد قطب، ويذكر النمنم فى دراسته التى صدر بها كتابه المهم هذا أن الكاتب الكبير «أحمد عباس صالح» قد حاول وضع يده على هذه الحلقة المفقودة ذاتها فى مقاله الافتتاحى لمجلة «الكاتب» فى سبتمبر ١٩٦٥ وكان صالح رئيسًا لتحريرها، يقول النمنم.. ذهب - يقصد عباس صالح إلى القول بأن سيد قطب لفت أنظار الاستعمار منذ وقت مبكر بكتاباته المناوئة للاشتراكية بدعوى أن الإسلام والاشتراكية متناقضان، فدعى إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وأمضى أكثر من عام، عاد بعدها لينشر كتابًا مليئًا بالمغالطات ضد العدل الاجتماعي، وضد الفكرة الاشتراكية تحت ستار الدعوة الإسلامية.

لكن النمنم يحقق فكرة «دعوة قطب إلى أمريكا» فى الفقرة السابقة من مقال أحمد عباس صالح.. فيتساءل: أى استعمار؟ الإنجليزى أم الفرنسى؟ كما أن كتاب سيد قطب عن العدالة الاجتماعية، الذى أشار إليه صالح فى مقاله كان سيد قطب قد كتبه وانتهى منه قبل سفره لأمريكا، ويصل النمنم إلى النتيجة فيقول: «هذا الفهم شديد العمومية، الذى يفتقد التدقيق راج لفترة إلى حد القول بأن قطب تم تجهيزه داخل الولايات المتحدة من قبل المخابرات الأمريكية ليقوم بالدور التخريبى، الذى كان ينتوى القيام به.. الصحيح فى كلام أحمد عباس صالح أن قطب كتب كثيرًا أن الاشتراكية تناقض الإسلام، وأنه من الضرورة الاحتكام إلى الإسلام منعًا للشيوعية من الانتشار والتغلغل فى المنطقة، وهذه الفكرة كانت ترضى الولايات المتحدة كثيرًا».

أيًا يكن وضع سيد قطب فى بعثته إلى أمريكا، فإنه لم يكن - عمليًا أو علميًا - يستحق هذه البعثة.. ويورد النمنم روايات متعددة نقلًا عن أكثر من باحث مصرى وعربى، مفادها أن الدولة فى عصر الملك المخلوع فاروق أرادت أن تتخلص من سيد قطب وأفكاره الداعية للتخلص من الملك والحاشية، ولم تجد ما تدخله به السجن، فأرسلته فى بعثة إلى الولايات المتحدة!.

وثمة رواية أخرى عن أسرار بعثة سيد قطب إلى أمريكا.. يذكر حلمى النمنم هذه الرواية، إذ يذكر أن د. الطاهر مكى - الناقد والباحث الكبير - كان يدرس فى معهد الدراسات العربية، وكان العالم والمثقف الكبير شفيق غربال من أساتذته وكان غاضبًا من سيد لأنه «غير وفى وناكر للجميل».. فقد توسمت فيه أنا وإسماعيل القبانى - المستشار الفنى لوزارة المعارف - الخير والنفع، فوفرنا له بعثة غير عادية إلى الولايات المتحدة ليتصل بالحضارة الغربية، وتقع عيناه على مافى العالم الجديد، فيعمق فكره وتتسع نظرته وها هو الآن يشتمنا.

كل الروايات - هذه - لم تقنع النمنم، فذهب يحكى للقارئ قصة وصوله إلى وثائق بعثة سيد قطب الرسمية، يروى.. وجدتنى فى منتصف ٢٠١٤ رئيسًا لمجلس إدارة دار الكتب والوثائق القومية، وكان وقتها د. عبدالواحد النبوى وزير الثقافة السابق رئيسًا لدار الوثائق، فذكرت له ما رواه د. أحمد كمال أبو المجد، الذى يعنى أن هذه الأوراق - يقصد وثائق بعثة سيد قطب لأمريكا - فى الأصل لدى وزارة المعارف العمومية، ومن ثم يجب أن تؤول إلى دار الوثائق وأن نطالب الوزارة بها.. وبعد عدة أسابيع قدم لى د. عبدالواحد النبوى ملفًا ضمن ملفات البعثات يتعلق بسيد، وعكفت د. نيفين محمد - رئيس دار الوثائق حاليًا - وفريق العمل معها على تجهيز هذا الملف الوثائقى ليكون صالحًا للنشر.

هذه قصة البحث الوثائقى فى الإجابة عن السؤال، الذى بحث النمنم فى إجابته: لماذا عاد سيد قطب إرهابيًا من أمريكا؟ وهو الجزء الثانى من الكتاب الذى بين أيدينا.. إذ يعرض النمنم لهذه الوثائق بالتفصيل، ونجد أنفسنا أمام سيل من المجاملات الحكومية التى قوبل بها سيد قطب منذ سنة ١٩٤٧ وأمام حالة من غض البصر عن تطبيق القانون والقواعد المتبعة فى الإدارات الحكومية-.. على حد تعبير النمنم.

ويخلص النمنم بعد فحصه لهذه الوثائق إلى السؤال الذى يفرض نفسه.. بعد كل هذا الذى قدمته له وزارة المعارف وكل هذه الاستثناءات، التى تمت بخصوصه، ماذا قدم للوزارة بعد عودته؟ ما الإضافة التى أحدثها فى مجال المناهج التعليمية؟ خصوصًا أن الوزارة على عهد د. طه حسين كانت بصدد التوسع فى فرص التعليم.. الواقع يقول أنه لم يقدم شيئًا بالمرة فى مجال التعليم، الواقع إنه لم يقدم شيئًا ذا بال..

ونصل إلى الجزء الثانى من الكتاب، الذى يشكل غالبية صفحاته، إذ يقع فى ٢٣ فصلًا، كل فصل يختص بوثائق يربطها رابط واحد، والفصول الثلاثة والعشرون يربطها رابط أكبر هو أنها مجموعة الوثائق، التى تؤرخ فى البعثة الإرهابى سيد قطب إلى أمريكا.

تمسك هذه الوثائق بموضوعات غاية فى الأهمية، ابتداءً من وثائق إيفاد سيد قطب فى بعثة إلى الولايات المتحدة لدراسة التربية وأصول وضع المناهج، وقبول سيد قطب للدراسة بكلية ويلسون للمعلمين، وإجراءات الكشف الطبى على سيد قطب وإعفاؤه من شرط النجاح فى كشف النظر، ومنح سيد قطب جواز السفر لأمريكا، وتأجيل سفره إلى أغسطس ١٩٤٨ ليتمكن من الالتحاق بالفصل الدراسى، الذى سيبدأ فى سبتمبر فى ذلك العام، والتصريح بدخوله إلى أمريكا، ونفقاته هناك بالتفصيل بما فى ذلك راتبه خلال البعثة، ومد بعثة قطب تعويضًا له عن المدة التى قضاها فى مرضه، وطلب سيد قطب صرف الفرق المستحق له عن راتبه منذ الأول من مايو ١٩٥٠، وحسابات البعثة ككل، وعودته بالطائرة بدلًا من الباخرة سنة ١٩٥٠ لسوء حالته الصحية، واستقالته من وظيفته بوزارة المعارف، وهذه ليست كل العناوين، هذه بعضها فقط!.

تكشف هذه الوثائق أدق الجوانب فى شخصية سيد قطب ومسلكه فى الولايات المتحدة، الذى عاد منها ليشكل حلقة من أخطر الحلقات فى تاريخ هذه الجماعة التكفيرية الإرهابية، وليتتلمذ على يديه أشهر الإرهابيين فى مصر والعالم العربى منذ الخمسينيات وصولًا إلى الدواعش فى السنوات الخمس الأخيرة.

محاولة علمية مدققة تلك التى يقدمها «حلمى النمنم» فى ثالث كتبه عن سيد قطب، وهى محاولة تقدم الكثير من الزاد المعلوماتى لكل باحث فى حقائق الجماعة الإرهابية ككل والتيار القطبى داخل الجماعة، وهى دراسة وثائقية تأتى فى توقيتها تماما لغير سبب.. فالتيار الغالب على الجماعة، الذى كان يديرها فى السنوات الأخيرة ولا يزال - هو هذا التيار القطبى، ولايعنى وجود هذا التيار داخل الجماعة أن التيارات الأخرى متسامحة أو قابلة للحوار، الجماعة ككل إرهابية من شعر رأسها حتى قدميها.. هذا سبب، أما السبب الثانى فهو أن الوطن كله فى حالة كفاح شاملة ضد الإرهاب المسلح والفكري، والإخوان - تحديدًا - رأس الإرهاب فى مصر والعالم كله.. لذا جاء كتاب حلمى النمنم - الثالث عن سيد قطب - تعرية لأفكار هذه الجماعة الإرهابية، تعرية بالوثائق والمعلومات المجردة وتفنيد سائر الروايات عن الإرهابى سيد قطب.. جاء كتاب حلمى النمنم هذا فى توقيته تمامًا فى معركة مصر الشاملة ضد الإرهاب.. وهى المعركة التى ستنتصر مصر فيها يقينًا.. !