نعم تابعت آخر عشر حلقات من هذا المسلسل، والذي لم يُسمَع به حتى الحلقة العشرين؛ وما دفعني لمتابعته هو ذلك الزخم المبالغ فيه وردود الأفعال على السوشيال ميديا؛ حيث تسابقت المواقع الصحفية بالحديث عنه والتكهن بالقادم من أحداثه، بمعدلٍ مُتسارعٍ فاق متابعتها لأهم الأحداث السياسية الجارية على الساحة.
وجاء هذا السباق المحموم بين المواقع من أجل خدمة وفرض هدفٍ واحد؛ هو تصدير فكرة كَون المسلسل هو صاحب الترند الأوحد في مصر، بل تعدى الأمر حدود العقل والمنطقية بتمرير صور - احترت في تقييم صحتها، التُقِطت في العديد من المقاهي؛ تشهد اصطفاف العشرات بل والمئات من أجل متابعته بترقبٍ وشغف، وسط بكاء وتهليل وصراخ مع كل مشهد!.
وبالنظر على هذا الجعفر وخصاله "الچيمس بوندية"؛ سنرى هذا العنتيل في زواج من أربع نساء، يأوي إليهن بجدول مُفعَل في ما يشبه الحرملك! وهو ما لم يتم إدانته من منظمات دعم حقوق المرأة وكأن الجميع على رأسه الطير، وبين ثروة ابن البلد والتي جمعها من كونه مُرابي مُتمرِس (تاب عن الربا في سبع دقائق بعد جلوسه مع شيخ المسجد، في مشهد ضعيف بحوار أضعف)، نجد أن القانون وأداة تطبيقه لا مكان لهما عند جعفر، بل أنه فَعّل قانون الغابْ لأخذ الحق (نظرية الجزمة على الرقبة)، وسط أحداث أقرب إلى الأفلام الهندي التي كانت مثاراً لسخرية المصريين لسنوات مضت، كل هذا بخلفية حوار مُتدني في أغلبه وحبكة درامية مفقودة.
وإذا ما فسرنا ادعاء نجاح هذا المسلسل؛ سنجد أنه نتْاج ظاهرة إعلامية ترويجية؛ تندرج نحو فئة من فئات الصناعة ؛ صناعة البطل أو الترند بالشحن والحشد الإعلامي، وتوجيه الرأي العام من خلال السوشيال ميديا كعالم افتراضي مُصدَق من الغالبية العظمى.
فنحن الآن نحيا في زمن شبكات التواصل الاجتماعي؛ حيث الأداة الفاعلة والمؤثرة في صياغة الرأي العام في المُجتمعات، ولم تعد «الميديا الاجتماعية» مجرد وسيلة عادية أو ترفاً، بل أصبحت ضرورة فرضتها المُتغيرات المُتسارعة في عالم الاتصال الجماهيري، الذي ارتفعت فيه وتيرة تطوره؛ إذ أصبحت «الميديا الاجتماعية» أداة فاعلة في تعبئة الرأي العام وصناعته في المجتمع ولا يمكن التقليل من أهميتها، ولا أهمية دخول فاعلين جدد في المشهد الإعلامي اليوم، بعد أن كان محصوراً في النُخب؛ إذ أصبح هؤلاء قادرين على التأثير في الرأي العام ومخاطبة الجماهير؛ إذا ما استخدموا لغة قريبة إليهم. وسواء أتَّفقَ البعض مع ما يطرحه هؤلاء المؤثرون صنيعة الميديا أم لم يتفق، فإن الواقع يشهد أن المتابعين كُثْر؛ وسط بطالة وفراغ أدمغة، وضحالة ثقافة، ووسط وضع اقتصادي قاسٍ،فلا ملجأ منه سوى الفرار لهذا العالم الافتراضي؛ مما يؤكد تفوق شبكات التواصل الاجتماعي. ونأتي لتفسير تفوق الميديا في أغلب الأحيان على الرغم من ضعف مصداقيتها؛ وهو كونها تفوقت بميزة "التفاعل الآني واللحظي" مع ما يُنشَر، بخلاف الإعلام التقليدي السمعي والبصري، الذي بدأ يشهد تغيرات في هذا المجال، لكنه لم يصل لنفس المستوى في إتاحة التفاعل السريع من الرأي العام في ما يقدمه من محتوى
إن ميزة التفاعل السريع والآني أنهت المقولة السائدة "إن العالم أصبح قرية صغيرة"، وأصبحت هذه المقولة جزءاً من التاريخ. إن من يريد أن يكون له حضور ناجح في «الميديا"؛ فعليه أن يدرك حقيقة مهمة، وهي أن شبكات التواصل الاجتماعي أصبحت مع الوقت تقدم صناعة منتجات وتسوق لها كمنتج؛ وبما إن لكل صناعة استراتيجياتها، فسنجد هنا في استراتيجية صناعة النجوم؛ لجأ صانع الرأي العام إلي التركيز على معرفة حاجة الفئات المُستهدَفة؛ فغلفْ "جعفر العمدة" بالقوة والمال، والبسه لباس ابن البلد، ليصل إلي أكبر شريحة من المجتمع، بل وجعله يستخدم مُصطلحات تتناسب مع عقلية ولسان العامة، وشحذ قوته الدعائية بالتكرار أمام أعين المُتلقي على مدار اليوم، وبالهمس في أذنه لترديد الهتاف بأفضلية العمل بلا منافس له؛ فخلق حالة من التدليس المُقنْع بعبقرية وجماهيرية "جعفر"، وبالتوازي خلق حالة من التوهان والذهول والتشكك عند قلة أمثالي مِن مَن تابعوا هذا "الهُراء".
السوشيال ميديا بمواقعها، بمقاطعها، بأخبارها المُتعاقبة كل دقيقة هي الصناعة المُجدية، هي من تستطيع شيطنة الملاك و تملك قدرات تأليه الشيطان.
لذا لا تتعجب من دموع المقاهي على"جعفر"، وتيشيرتات "جعفر"، وليفة "جعفر" وأجيال "جعفر العمدة".