السبت 23 نوفمبر 2024

مقالات

رحم الله زمان الجاهلية..!

  • 26-4-2023 | 11:55
طباعة

ولم تزلْ هذه الأسئلة تُلحُّ على أبواب العقل طَرْقاً لا ينقطع !! ، هل الانفتاح على الآخر أمرٌ فُرِضَ علينا ...؟، وهل نستطيع أن ننفتح دونما تضحيةٍ بخصوصيات مجتمعنا مثل المحافظة على تميُّزنا الثقافي والقيمي ؟!! وهل يمكننا التخفيف من شدة الاحتكاك والتداخل بين الثقافات بفعْل ثورة الاتصالات التي لا يمكن إنكار تأثيرها القاطع .. ؟!! و ...و... كثيرةٌ هي الأسئلة التي تحول بيني وبين إغماض عيني، والتمتُّع بساعة نومٍ هادئةٍ ، لكن المؤكد أن الانفتاح على الآخر لم يعد خياراً مثلما كان في السابق ، والمؤكد أيضاً أن خطر ذوبان الطرف الثقافي الضعيف في بوتقة الطرف الأقوى حضارياً وثقافياً أصبح ماثلاً للعيان ولا يمكن تجاهله ...!! إنها ضريبة التأخُّر عن مسايرة هذي الخطى المتلاحقة للتقدُّم في شتَّى المجالات.


 لكن ... ما للشعراء والانشغال بأخطار العولمة ؟!! نعم ... مالى وهذي الفخاخ التي أوقعتْني فيها طَرَقاتُ الأسئلة على أبواب عقلي ؟!! أليس مَنْ حولي لا يرون في الشعر وسائر الفنون إلا هواياتٍ تمنح الأرواح المتعة والسعادة في أوقات الفراغ ؟!! وهذه مصيبةٌ كبرى ... لأن أصحاب هذه الرؤية المضحكة متأثرون بمشَاهدَ كرّستْها الدراما العربية ؛ حيث جلساء الأمير في قصر الإمارة يقطعون على السآمة كل الطرق المؤدية إلى قلب الأمير ... هم والمهرجون سواء ؛ ولا يدركون أن العولمة بكل ما تحمله من إيجابيات وسلبيات ستعمد لاقتحام حياتنا وستفرض علينا رؤاها ، والتي قد نتفق معها أو نعترض عليها ،فلْنتفقْ أو نعترضْ على اقتحام العولمة حياتنا ...!!  فلن يغير من الأمر شيئاً ، بقدْر ما تزداد خسائرنا واستهلاكنا المزيد من الوقت في الحسرة على اللبن المسكوب، لكننا إذا أردنا انفتاحاً نافعاً على الآخر وتسخيرالعولمة لصالحنا ، فلابد من ترسيخ ثوابت المجتمع وقيمه الأخلاقية وتقاليده التي بها نحمي هويتنا ؛ ذلك أن انفتاحاً غيرمحسوبٍ  على الثقافات والعادات الدخيلة يزيد من أخطار ذوبان هويتنا ، وتمييع منظومة قيمنا وأخلاقنا.

إن الانغلاق بوضْع سدٍّ منيعٍ يحجب عن الشجرة الماء والضوء، أو الانفتاح بمعنى اقتلاع جذورها لنمنحها حرية التجوُّل في أنحاء الغابة ...هذان المحوران كانا أساسين لقصيدتين جديرتين بالقراءة المتمهلة، والمدهش أن كل قصيدة تتبنى محوراً واحداً؛ فليس هناك أرضيةٌ مشتركةٌ بينهما، فكلتاهما على طرفيّْ نقيض!!، القصيدة الأولى للشاعرالعراقي الرائع "أحمد مطر" بعنوان ( جاهليَّة ) ؛ وفيها يتهكم الشاعر من كل ما يأتينا من الغرب من أفكارٍ يحملها شخوصٌ تتزيا أزياءنا، وتتحدث بألسنتنا، لكن أفكار هؤلاء القادمين تناقض تصرفاتهم ... كل ذلك من خلال ما عقده الشاعر من مقارنةٍ بين عصرين:

(في زمان الجاهلية ... كانت الأصنام من تَمْرٍ، وإن جاع العبادْ ...فلهم من جُثَّة المعبود زادْ !!!)

 في اللقطة الأولى رصدٌ لكيفية تعامُل العربي مع صنمه الذي صنعه بيديه ؛ لكننا في العصر الحديث مع أخطار العولمة لها أيضاً أصنامُها ..!!! لكنها تأتي على هيئة أفكارٍ تعشِّش في عقول أفرادٍ من بني جِلْدتنا يتسمون بالتطرُّف ...فالتناقض الحاد بادٍ في سلوكياتهم ؛ عبادتهم لله لا تتصف بالثبات رغم سبابهم للوثنية ، وأبواقهم الداعية إلى الجهاد : ( وبعصر المدنية... صارت الأصنام تأتينا من الغرب ولكن بثيابٍ عربية ..تعبد الله على حرْفٍ، وتدعو للجهادْ ؛ وتسبُّ الوثنيةْ !!)، لكنهم إذا ما وجدوا فرصةً تظهر مطامعهم .... (وإذا ما استفحلتْ، تأكل خيرات البلاد...وتُحلِّي بالعبادْ ....!! ) ولا تفارق " أحمد مطر ) روحه الساخرة في استخدام اللفظة المصرية الشهيرة ( تُحَلِّي ) التي يصف بها المصريون كلَّ مسترزِقٍ يرتدي قناع الدين ؛ ليهتف بعدها ( رحم الله زمان الجاهلية ....!!).                          

وإذا كانت قصيدة ( جاهلية ) للرائع " أحمد مطر " تقف موقفاً عدائياً تجاه كل ما يَفِدُ إلينا من الغرب أفكاراً وشخوصاً ؛ فإن قصيدة ( الاتجاهات ) للشاعر " تشيريكوري تشيريكوري " أحد أشهر شعراء زيمبابوي تقف موقف الإعجاب الشديد بكل ما في الغرب، وكما قارن " أحمد مطر " بين زمانين ، وبين أصنام الجاهلية وبين أصنام المدنية ؛ ليخْلُص إلى أن أصنام الجاهلية يأكلها صانعوها في جوعهم، أما أصنام المدنية فلا سيطرةَ على أخطارها، يقارن الشاعر " تشيريكوري " بين موقفه هو وبين موقف شعبه المغلوب على أمره في التعامل مع ما يَفِدُ من الآخر من أفكار ؛ فهو محور القصيدة حيث تحرَّر من انغلاق شعبه  ، رأسه تدور وعيناه تتجوَّلان ما بين أفكار الشرق وأفكار الغرب ، هو يطفو لا حدَّ لحركته ، وأفراد شعبه غرقى وإن لم يقلْها لفظاً ، فما السرُّ في اتساع دائرة عينيه ؟!! ، إنه أثرُ الغرب حيث وُلِد وتربَّى وتعلَّم ، حتى مسار أحلامه يبدأ من اليسار إلى اليمين ، كمثل طريقة كتابة أبجديتهم ...!! إن " تشيريكوري " يرى في بلاد الغرب جنَّته الموعودة !!! وأنت قارئي الكريم إلى أي موقفٍ تنتمي .. وفي أية ضفَّةٍ تقف؟!!! وإلى قصيدة ( الإتجاهات ) والشاعر " تشيريكوري " : 

 هأنذا أجلس على هذا الكوكب أدور شرقاً ... غرباً ... شرقاً ... غرباً 

هأنذا أطفو على هذه الأرض .... أتحوَّل شرقاً ... غرباً .... غرباً .... شرقاً     

 هأنذا أشاهد أبناء شعبي يتلقُّون الأوامر ... انظروا شرقاً لا غرباً ... انظروا شرقاً 

وها أنا أقف هناك ... وُلِدتُ ... وتربَّيتُ ... ودُرِّبْتْ على القراءة ...الكتابة ... التفكير ...الحُلْم ... من اليسار إلى اليمين !!!

الاكثر قراءة