الثلاثاء 21 مايو 2024

اليوتوبيا الإسلامية.. نظرة في فلسفة الفارابي (2 – 2)

مقالات2-5-2023 | 11:43

انتهينا في مقالنا السابق عند عدد من التساؤلات، وهي هل ترك لنا الفارابي سمات لهذا الرئيس؟ وهل هناك مضادات للمدينة الفاضلة؟ وهل كانت المدينة الفاضلة التي كان يحلم بها الفارابي قريبة من التصور الأفلاطوني، أم بعيده عنه؟

عزيزي القارئ فكما قال الفارابي أن الرئيس هو الركن الأول والأساسي للمدينة الفاضلة وهو القمة يتربع فوق نظام تصاعدي، كما يتربع الوجود الإلهي فوق الموجودات، لذلك إن الفارابي الذي يصف الله في آراء أهل المدينة الفاضلة بأنه "الأول" فإنه أيضًا يطلق علي رئيس المدينة الفاضلة هذا الوصف.

فهذا هو الرئيس الذي لا يرأسه إنسان آخر، وهو الإمام، وهو الرئيس الأول للمدينة الفاضلة، وهو رئيس الأمة الفاضلة، ورئيس المعمورة من الأرض كلها. فهم يخضعون لإرادة رئيس واحد تتمثل فيها المدينة بخيرها وشرها، فتكون فاسدة إذا كان حاكمها جاهلًا بقواعد الخير أو كان فاسقًا أو ضالًا؛ أما المدينة الخيرة أو الفاضلة فهي نوع واحد، ويرأسها الفيلسوف، والفارابي يصف أميره بكل فضائل الإنسانية.

ولا يعتقد الفارابي أن أي إنسان يصلح أن يكون حاكمًا أو رئيسًا للدولة، فرئيس المدينة، الفاضلة، او الملك، او الحاكم عموما "أب" و"مربي" و"مؤدب" ومعلم للناس، أو هو "مروض"، تمامًا كالسائس" الذي يقوم بترويض الخيول ولا يجد المعلم الثاني حرجًا ولا غضاضة في أن ينظر إلى مجموع الناس على أنهم "قصر" او كالصبياني والأطفال الذين يحتاجون إلي تربية وتأديب او هم أقرب إلي “تأديب أرباب المنازل لأهل المنازل". والسؤال الآن، هل ترك لنا الفارابي سمات لهذا الرئيس؟

عزيزي القارئ لا يمكن لأي إنسان أن يكون رئيس "المدينة الفاضلة" إلا أن تجتمع فيه أثنتا عشرة خصلة قد فطر عليه:

  • أن يكون تام الأعضاء.
  • أن يكون بالطبع جيد الفهم والتصور لكل ما يقال له.
  • أن يكون جيدا الحفظ لما يفهمه ولما يراه ولما يسمعه ولما يدركه.
  • أن يكون جيد الفطنة، ذكيًا.
  • أن يكون حسن العبارة.
  • أن يكون محبًا للتعليم والاستفادة، منقادًا، سهل القبول، لا يؤلمه تعب التعليم.
  • أن يكون غير شره على المأكل والمشروب والمنكوحة، متجنبًا بالطبع للعب.
  • أن يكون محبًا للصدق واهله، مبغضًا للكذب وأهله.
  • أن يكون كبير النفس، محبًا للكرامة.
  • أن يكون الدرهم والدينار وسائر أعراض الدنيا هينة عنده.
  • أن يكون بالطبع محبًا للعدل وأهله، ومبغضًا، للجور والظلم وأهلهما.
  • أن يكون قوي العزيمة على الشيء الذي يري أنه ينبغي أن يفعل خثورًا عليه، مقدمًا غير ولا ضعيف النفس خائف.

عزيزي القارئ الفارابي كان حالمًا تارة وواقعيًا تارة أخري، وهو ما يدفعنا إلى التساؤل هل هناك مضادات للمدينة الفاضلة؟ الحقيقة أن كتابات الفارابي تقودنا إلى وصف بارع ودقيق لهذه المدن المضادة، أستوحى فيها عناصر اجتماعية ونفسية وخلقية ودينية وبيئية، لم يتيسر له التميز فيها بين أمرين: الأول: الطريقة الوصفية لطبيعة المجتمع.. والثاني: المؤسسة الاجتماعية التي ينهض عليها المجتمع. وفي فحص تنظري لموقفه نجده قد حصر هذه المدن بشكل عام في أربع مجموعات:

(1) المدن الجاهلة. ووضع تحتها مثيلاتها محددًا إياها بسته، كما يلي:

أ- المدينة الضرورية.                        ب- مدينة النذالة.                   ج- مدينة الخسة او الشقوة.

د مدينة الكرامة.                            هـ - مدينة التغلب.                 و- المدينة الجماعية (أو الفوضوية).

(2) المدينة الفاسقة.                         (3) المدينة المبدلة.                         (4) المدينة الضّالة.

أما المدينة الجاهلة، وهي التي لا يعرف أهلها السعادة ولا خطرة ببالهم. والمدينة الفاسقة، وهي التي يمثلها مجتمع الانحراف الذي يعلم الحق ويعرف موضوعه، ولكنه ويبتعد عنه. والمدينة المبدلة، التي انحرفت بعد إيمان وضلت بعد يقين فأصبحت أفعالها مخالفة لأفعال المدينة الفاضلة وخارجه عليها، وأخيرًا المدينة الضالة، فأساس ضلالها تصور رئيسها الأول أنه يوحي إليه فيخدع مجتمعه بأقوال وخيالات بعيدة عن الحقيقة، رغم أن أهلها يعتقدون بالله وبالعقول المفارقة وبالعقل الفعال، ولكن اعتقادهم ذاك فاسد ومنحرف وضال. والسؤال الآن، هل كانت المدينة الفاضلة التي كان يحلم بها الفارابي قريبة من التصور الأفلاطوني، أم بعيده عنه؟

قدم لنا يقارب سهيل قشا في مقالته "الفارابي والمدينة الفاضلة" هذا التقارب بين جمهورية أفلاطون ومدينة الفارابي الفاضلة فيبين أن نقاط الاختلاف بينهما هي التالية:

  • إن أفلاطون يقسم جمهوريته إلى ثلاث طبقات وفقًا لقوي النفس، فطبقة الحكام توازي القوة العاقلة، وطبقة الجنود توازي القوة الغضبية، وطبقة العمال أو الاقتصاديين توازي القوة الشهوانية. أما الفارابي فيرتب مدينته وفقًا لقوي البدن بتدرج أعضائه، أو نظام الفيض بمراتب الموجودات وتدرجها من الهيولى إلى الواجب الوجود.
  • يعرض أفلاطون لبناء المدينة وتعيين الطبقات لسن نظام تربوي محدد المنهج والزمن في كل مرحلة من مراحله، قائم على امتحانات ترتب على أساسها الطبقات وتهيأ، وهي محاولة واقعية وإن لم يحالفها التوفيق. أما الفارابي فلا يحفل بشيء من ذلك، بل يترك المهمة علي الرئيس الصالح.
  • أفلاطون لا يسلم قيادة جمهوريته لفيلسوف وإن بلغ الذروة في العلوم النظرية، ما لم يطلقه خمس عشرة سنه في مجتمعه الواسع يعود بعدها إلى الحكم، وقد كسب المعرفة العلمية. اما الفارابي فيكتفي بأن يجعل الرئيس نبيًا وفيلسوفًا يشرق عليه العقل الفعال وهو في هذه الدرجة من التفوق مستغن عن الخبرة العلمية.
  • يقول أفلاطون بشيوعية الملك والنساء والأولاد ليمنع التعدي بين طبقات المجتمع وسحم النزاع والشرور ولا يعرض الفارابي المفكر المسلم لشيء من ذلك.

وختامًا نلاحظ عزيزي القارئ أن نظرية الفارابي عن "المدينة الفاضلة" تحمل طابعا يونانيًا لاستقائه من الفلسفة الأفلاطونية، ولكنها أيضًا جاءت نتيجة لتطلعاته الفلسفية والصوفية كفيلسوف إسلامي، ومن هنا إن آراءه في "المدينة الفاضلة " تشمل البشر الذين يعيشون على هذه الأرض جميعًا وليست هي منهجًا سياسيًا يطبق في أوضاع "راهنة".

أضف إلى ذلك، أن المثل الأعلى للحكومة في نظر الفارابي هو الذي يكون الحكام فيه فيلسوفًا. وان الناس اجتمعوا بضرورة الاجتماع ويضعون أنفسهم تحت ارادة فرد يمثل الحكومة، وأفضل الحكومات ما كانت متصلة بهيأة دينية أي أن تكون الحكومة مسيطرة على أمور الأمة الدينية والدنيوية، وكانت فلسفة الفارابي روحانية محضة فعاش ملكًا في عالم العقل متسولًا في عالم الحياة المادية وكانت فلسفته لا تعطي شيئًا مما تتطلبه الحواس.