الأحد 29 سبتمبر 2024

نحتاج إلى «قوم يا مصرى» بينما الكثيرون منا يعشقون «أغانى المهرجانات» الآن: هل أهدرنا «معنى» سيد درويش؟

16-9-2017 | 17:58

بقلم  –  أحمد النجمى

من يسير فى شوارع القاهرة- أو أية مدينة مصرية- هذه الأيام، تخترق أذنيه إيقاعات عشوائية صاخبة وأصوات منكرة وكلمات مبهمة، تنبعث من «التوك توك» الذى يتكاثر تكاثراً سرطانياً، يسمونها «أغانى المهرجانات».. يندهش المصرى الذى تصك أذنيه هذه الأغانى- والمصطلح هنا «اضطرارى»، فليس هناك مسمى آخر حتى الآن ينطبق على هذا «القرف الفنى»- تندهش من أن البلد الذى أنتج أغنية المهرجانات هو ذاته الذى قدم المجدد العظيم «سيد درويش» قبل قرن من الزمان، ويزداد دهشة من كون بلادنا اليوم فى حاجة إلى « قوم يامصرى.. مصر دايماً بتناديك»، لا إلى تلك «الأغانى» التى تعلن انهيار الذوق العـــام انهياراً نهائياً!

كلما افتتح الرئيس السيسى مشروعاً قومياً عظيماً، تلفتنا حولنا باحثين عن أغنية تعبر عن هذه المرحلة التاريخية هذه الروح الوثابة التى تدب فى أوصال الدولة المصرية، فلم نجد شيئاً.. الحقيقة أننا نتلفت باحثين عن «سيد درويش»، فلا نجد سوى «أوكا» و «أورتيجا» ومن يشابههما من الأسماء وما يقدمان من الأغنيات المعروفة بأغانى المهرجانات..!

فى ثورة ١٩١٩ الشعبية العظيمة، صارت أغنية «قوم يامصرى.. مصر دايماً بتناديك.. خد بنصرى.. نصرى دين واجب عليك»، مثل نشيد قومى.. واحدة من إبداعات الراحل العظيم سيد درويش لحناً وغناء، كتبها بديع خيرى، فأشعلت الروح الوطنية لدى المصريين، وصارت شعاراً لحث الهمة فى أزمنة الكفاح المصرى المختلفة، أبدعها فنان وطنى مشتعل الوطنية- سيد درويش- ولا يزال المرء محتاجاً إلى ترديدها هذه الأيام- إذ نعيش زمناً من أهم أزمنة الكفاح الوطنى وأصعبها- لأنه لا يوجد ما يوازيها فى قيمتها الفنية ومعناها..!

لنتوقف قليلاً أمام المغنى؛ «معنى سيد درويش».. فما تركه الرجل- الذى حلت ذكرى رحيله الرابعة والتسعون الأحد الماضى ١٠ سبتمبر «توفى ١٩٢٣”- من الغناء وضروبه المتنوعة شيء كثير على الرغم من حياته القصيرة «عاش ٣١ عاماً وحسب»، وقيمته الفنية ودوره الفنى وطبيعة ألحانه وصوته.. كل هذا من الشئون التى يختص بها نقاد الموسيقى العربية والعارفون بأصولها وفروعها ولسنا منهم ولا نزعم أننا من بينهم، لكننا - يقيناً- نستطيع أن نضع أيدينا على «المعنى» الذى يجسده فن «سيد درويش»، فإذا كانت ثمة قاعدة عتيقة وضعها مؤسس علم الاجتماع العلامة «ابن خلدون» تقول إن «أول ما ينقطع من العمران هو فن الغناء..»، وإذا وضعنا فى الحسبان أن «العمران» هو الحضارة والنهوض المادى «الاقتصادى- الاجتماعى»، فإن العكس أيضاً صحيح، إذ تنهض الأغنية بنهوض الوطن وتقدم «العمران» على قول ابن خلدون.. وسيد درويش هو المعبر الرئيسى عن ثورة ١٩١٩ بما تحمله من المعانى الأساسية فى تاريخ المصريين وعلى رأسها «الاستقلال وجلاء المحتل البريطانى»، وقيام حياة برلمانية ديمقراطية سليمة ووحدة وادى النيل «مصر والسودان»، هذا هو المشروع السياسى الذى جسده قيام حزب «الوفد» بزعامة سعد زغلول تجسيداً سياسياً وجسدته ثورة ١٩١٩ ميدانياً وجسده سيد درويش غنائياً هذا هو «المعنى» فى غناء سيد درويش الوطنى!

المعانى- ذاتها- قائمة الآن.. فمصر - فى عصر عبدالفتاح السيسى- تؤسس استقلالاً فعلياً جديداً، صحيح أن مصر استقلت عن الاحتلال البريطانى بموجب اتفاق ١٩٥٤ الذى وقعه خالد الذكر «جمال عبدالناصر»، لكن مصر بعد هذا التاريخ بعشرين عاماً، عادت لتدور فى الفلك الأمريكى: الانفتاح الاقتصادى الذى يربط لقمة عيش المصريين بآلة الاقتصاد الأمريكية، وربط الجنيه بالدولار، وربط الصناعة بما يوافق عليه «الصديق الأمريكى» فقط، وربط تسليح جيشنا بما يرضى عنه نفس الصديق بل بما يمنحه لنا من «المعونة».. باختصار، باتت مصر تحتاج إلى تحقيق استقلال أعمق وأصعب من جلاء المحتل البريطانى.. وحين تولى الرئيس السيسى الحكم فى يونيو ٢٠١٤ تغيرت المعادلة .. كان الشعب قد ضرب عرض الحائط بإرادة واشنطن بقيامه بأكبر ثوراته على الإطلاق «٣٠ يونيو المجيدة» التى أطاحت بحكم الجماعة الإرهابية والمعزول «مرسى»، وهو الحكم الذى جاء وقام برعاية أمريكية، وحين سقط غضبت واشنطن على مصر والمصريين.. فجاءت أغنية «تسلم الأيادى» لتعبر عن هذا الحدث، صحيح أن الأغنية راجت ونجحت، لكنها لن تعيش فى الذائقة المصرية طويلاً.. لأسباب فنية بالطبع.. ومع بدء حكم الرئيس السيسى كسرنا الحصار الأمريكى علينا، تحررت الإرادة المصرية.. وانطلقت: لم تعد قواتنا المسلحة فى انتظار التسليح الأمريكى بل انفتحت على مصادر التسليح الأوربى والروسى، ولم تعد مصر تنتظر المعونة لكى يأكل المصريون.. الذين اندفعوا فى ٨ أيام فقط ليتبرعوا بـ ٦٤ مليار جنيه لشق قناة السويس الجديدة، المشروع الذى خيب ظنون أعداء مصر فى الداخل والخارج.. وتم شق أطول شبكة طرق فى العالم وأحدثها على أرض مصر، فضلا عن مشروعات العاصمة الإدارية الجديدة، والجلالة، وأنفاق قناة السويس الجديدة، والمليون ونصف المليون فدان.. وحققت مصر - لأول مرة منذ أكثر من ٤٠ عاماً- توازناً افتقدناه طويلاً فى علاقاتنا الدولية وفى قرارها الإقليمى والعالمى.. باختصار، حققت مصر «الاستقلال العميق» الذى كان مطلوباً.. فلم نرَ أغنية وطنية واحدة تسجل كل هذا تسجيلاً لائقاً، يمكنه أن يعيش ويبقى!

إن سيد درويش سجل بأغنياته بزوغ المشروع الوطنى.. بعض هذه الأغنيات لم تخلد وحسب فى الوجدان المصرى بل صارت علماً على الوطنية ذاتها.. حسبك منها «النشيد الوطنى» الراهن «بلادى بلادى» الذى قام بتوزيعه محمد عبدالوهاب واعتمد نشيداً وطنياً لمصر منذ العام ١٩٧٩ وحتى اليوم، و «أنا المصرى كريم العنصرين» و «مصرنا وطننا».. سعدها أملنا»- وسعدها هذه دلالة على سعد زغلول- و»أحسن جيوش فى الأمم جيوشنا» و «سالمة ياسلامة؛».. هذا بعض مما أبدعه سيد درويش قبل ما يقرب من مائة عام، تلاحماً منه مع الحركة الوطنية المصرية التى وصلت إلى ذروتها فى ثورة ١٩١٩ الشعبية، ألهبت هذه الأغانى خيال الناس فى وقتها، بل إن عدداً من المصريين لم يكن ليلتحم بالحركة الوطنية المصرية آنذاك لولا أغنيات سيد درويش هذه.. !

وإذا كنا اليوم نطالب المصريين بمساندة المشروع الوطنى القائم حالياً، ونندهش من أن بعضهم لا يتفاعل مع الجهد المستمر الذى يبذله الرئيس السيسى من أجل تغيير حياة المصريين وتغيير مستقبل مصر، فإن الغناء يبدو حلاً مهماً من الحلول التى يجب طرحها لتفكيك هذه الإشكالية!

لقد واصل الغناء المصرى استلهام التراث الغنائى الوطنى لسيد درويش فى الخمسينيات والستينيات، ليواكب المشروع القومى الكبير لبناء الدولة وبناء القوات المسلحة فى زمن الزعيم جمال عبدالناصر، ولا تزال أغنيات عبدالحليم حافظ التى تغنى بها- ومعظمها من ألحان كمال الطويل وكلمات صلاح جاهين- تعمل عمل السحر فى نفوسنا كلما استمعنا إليها.. ويحزن المرء حين تضطر القنوات التليفزيونية الرسمية والخاصة سواء بسواء، إلى بث هذه الأغنيات فى الأحداث الوطنية الكبيرة هذه الأيام، ويلتمس لهم الأعذار، إذ لا توجد أغنيات تعبر - بصدق - عن الإنجاز الوطنى الراهن.. لا توجد قدرة على التفاعل الفنى، ولا توجد جهات إنتاج جادة، ولا توجد أصوات عظيمة تقدم الأغنية الوطنية.. فأهدرنا «معنى» سيد درويش.. بأننا لم نعد نتفاعل مع الأحداث الوطنية ولا التحولات الكبيرة فى الواقع المصرى إلى الأفضل.. كأن الغناء تحول إلى «سوق» كبيرة بلا قلب ولا وجدان..!

وتسمع وتقرأ وتشاهد أخبار كبار المطربين، أصحاب الشعبية الكبيرة فى أوساط الـ Fans”-” أو المعجبين، فمن العيب الآن أن تقول «جمهور»، اللغة العربية صارت معيبة فى هذا الزمن - وأنت فى مواجهة هذه الأخبار لا يمكنك إلا أن يتملكك الإحباط.. خناقات عمرو دياب وشيرين وليتها خناقات فنية.. ضبط كوكايين بحوزة مطربة سورية كبيرة، أو تامر حسنى يسافر للولايات المتحدة ليحصل على جائزة أمريكية لتنطلق أصوات تقول إنه اشتراها وأصوات أخرى تقول «حرام عليكم.. لقد حصل عليها بمجهوده»، هذه أخبار المطربين فى أيامنا الحاضرة.. فإن أطلق عمرو دياب أغنية قال فيها «بحب برج الحوت» انشغل الناس بصاحبة الأغنية من تكون.. وهل الممثلة الشابة التى يقال إن بينها وبين عمرو قصة حب هى المقصودة بالأغنية أم لا..؟

ياسلام.. هذه هى أخبار الوسط الغنائى فى مصر الآن.. أخبار أهم الأصوات وأفضلها وأوسعها شعبية .. ثم - بعد ذلك - نتساءل: أين الأغنية الوطنية الآن من زمن سيد درويش؟ ولماذا تبقى أغنيات سيد درويش الوطنية - وحدها- على الساحة تعبر عن أحداثنا الوطنية الكبيرة؟

سيد درويش لا يزال هو البطل- بلا منازع- للأغنية الوطنية فى مصر.. أغنياته الوطنية نحتاجها إلى الآن، ونتغنى بها إلى الآن بعد ٩٤ سنة من رحيله، يتلفت المصريون حولهم فلا يجدون إلا أغنياته لتشحذ وطنيتهم وتنقلهم إلى «الحالة» المطلوبة فى الوقت الراهن.. سيد درويش الذى نشأ بسيطاً وطالباً فى المعهد الدينى بالإسكندرية، ثم فى المقاهى، فوصل بصوته إلى البسطاء.. وغنى لجميع طوائف الحرف، وجميع العرقيات الأجنبية التى كانت على أرض مصر- عدا الإنجليز بالطبع- فتفاعل مع جميع مكونات هذا الشعب.. ونلاحظ أن الطائفتين الوحيدتين اللتين لم نعيد لهما سيد درويش هما: المحتل البريطانى والقصر الملكى، ولم تكن تلك مصادفة، بل كانت جزءاً من الانتماء الوطنى الأصيل فى وجدان سيد درويش، الذى لم يكن سياسياً، ولكنه خدم بأغنياته القضية الوطنية أفضل خدمة.. بل إنه لا يزال - حتى الآن- المطرب الوطنى رقم واحد فى مصر!

لا يمكننا أن نطالب المصريين بالالتحام- بالعاطفة والوجدان- بالمشروع الوطنى الذى يجسده عصر «عبدالفتاح السيسى» بدون أغنية وطنية صادقة ومتميزة، فهذا النوع من الغناء - النابع من اقتناع حقيقى من صناعه بالقضايا التى يغنون عنها- هو وحده القادر على نقل قضايانا الكبرى إلى الأوساط الشعبية، وعمل التفاعل المطلوب مع هذه القضايا.. أما الأغنية الوطنية الراهنة فهى كما يقول العامة «قضاء واجب»، وكأن كل مغنٍ يقوم بتقديم إحدى هذه الأغنيات يريد أن يسجل فقط أنه صنع أغنية وطنية «عملنا اللى علينا».. هذا هو المنطق السائد!

يا سادة.. حين غنى سيد درويش «قوم يامصرى» ليستنهض همم هذا الشعب لمساندة المشروع الوطنى فى ثورة ١٩١٩، لم يحصل على الملايين، ولا انتظر جزاءً ولا شكوراً، ولا مجداً، ولا «Fans» ، وبرغم هذا.. لا يزال حبه يسكن القلوب ولا تزال هذه الأغنية وغيرها من «وطنيات» سيد درويش فى مقدمة أغنياتنا الوطنية بعد ٩٤ سنة من رحيله، فهل جفت قريحة المبدعين أن أفسدهم المال الغزير الذى بات يتحكم فى الأغنية الآن؟ «الوطنية» لا تربح مالاً ولا تصنع ثروة، ولكنها تصنع مجداً فنياً يعيش لمئات السنين.. هذا هو الدرس أيها الفنانون، يا من أهدرتم «معنى» مشروع سيد درويش الفنى الوطنى الكبير..!