تحقيق: محمد فوزى
١٥٠حالة ترددت على البشعة العرفية بالإسماعيلية خلال العامين الماضيين، معظمها فى جرائم سرقات وقتل وشرف، ٥٠ حالة منهم اعترفت قبل لحس البشعة خوفًا من النار، بينما ٨٠ شخص لحسوا البشعة دون خوف وحصلوا على البراءة الإلهية كما يطلق عليها أهل البشعة.. هذه الأرقام على مسئولية الشيخ عويمر عامر عياد، أشهر مبشع بالإسماعيلية ومدن القناة، الذى يرفض وصف «البشعة» بأنها خرافة أو دجل، ويؤكد أن الإقبال تزايد عليها مؤخرا، مما يؤكد ثقة الناس فيها.
عويمر يقسم أن ما يقوم به ليس ضد الدين، بل هو حريص على فك الناس بالود قبل لحس البشعة، ويقوم بقراءة الفاتحة قبل عملية اللحس.
لكن الدكتور عبد الله النجار عضو مجمع البحوث الإسلامية، على العكس تماما يرى أن البشعة محرمة شرعاً، وأن «الشخص الذى يمارس الحرق فى حق جسده حتى يثبت براءته أمام جلسات البشعة يأتى بجرم فى حق نفسه.
«البشّعة» إحدى مفردات التحكيم بين المتخاصمين من البدو فى صحراء مصر الشرقية بمناطق ومحافظات سيناء والإسماعيلية والشرقية، وهى عادة لا تزال قائمة ومقصد المشاهير والأثرياء والعرب.. وخلالها يحتكم المتخاصمون للنار للفصل بينهم بلعقها عند محكم متخصص يسمى «المبشع» والمنوط به تنفيذ حكم القضاة العرفيين.
وداخل عشة من الجريد بصحراء قرية سرابيوم بمحافظة الإسماعيلية، يجلس الشيخ عويمر عامر عياد من أبناء قبيلة العيايدة، على حصيرة بسيطة أمامه راكية النار، فيما يجلس ابنه أحمد (١٦ سنة) بالقرب من باب المقعد لاستقبال الضيوف والزوار.
الشيخ «عويمر» يروى حكايته مع البشعة بأنها مجلس عرفى وعهد وقسم، وأصله يرجع إلى رؤية منام قبل ٣٥٠ عامًا لأحد أجدادى من قبيلة العيايدة، التى أخذت عهد البشعة كمجلس عرفى منذ ذلك التاريخ، حيث رأى الجد الأول فى منامه أنه خرج هو ورفيقه فى رحلة، وعندما حل عليهما الليل ناما، وعندما استيقظ الجد فى الصباح لم يجد رفيقه ولا الجمل الذى كان يصحبهما، فقام بتتبع الأثر حتى التقى جماعة وجلس بينهم، فإذا برفيقه يدخل عليهم.. وعندها وجه له جدى اتهامًا بسرقة الجمل فأنكر بشدة، وعندما احتد النقاش بينهما ناما، فجاء لجدى هاتف بأن عليه أن «يُحمى الطاسة حتى تسير جمرًا، ثم يطلب من صديقه لحس النار ثلاث مرات.. فإذا كان صديقه هو السارق ستحرق النار لسانه، أما إذا كان مظلومًا فلن يحدث له شيء».. وعندما استيقظ جدى فعل ما رآه فى الهاتف وطلب من رفيقه لحس النار، فاعترف قبل لحسها بسرقة الجمل وبيعه.
ويضيف: بعد ٤٠ يومًا من وفاة والدى واتفاق القبيلة على شخصى، قمت كما العرف بذبح فدو وتم قراءة الفاتحة على أن البشعة عندى «الشيخ عويمر»، والتزمت منذ تلك اللحظة بالعهد والقسم وحل مشاكل الناس، أو ما نطلق عليه (فك الناس) أى حل المشكلات بالطرق الودية قبل اللجوء للبشعة حتى لو «هدفع فلوس من جيبى».
وعن المقابل الذى يحصل عليه مقابل «البشعة»، قال الشيخ عويمر: المقابل المادى أو (البشاعة) أو إيقاد النار يتم تحديدها بناءً على نوع القضية ومن خلال الشهود أو الأمناء، وتتراوح ما بين ٥٠٠ جنيه إلى ١٠٠٠ جنيه، وأحيانًا يكون المقابل ١٠٠ جنيه فقط، وأحيانًا أخرى يتم فك المتقاضين وديًا وبدون مقابل.
ويشتكى الشيخ عويمر من المتلاعبين والمبشعين (ويصفهم بالمدعين)، الذين انتشروا عقب ثورة «٢٥ يناير» بكثرة رغم أنهم للأسف لا علاقة لهم بالبشعة، بل يقومون بالنصب على الناس.. ويشير «عويمر» إلى أن دفتر التحكيم العرفى الموجود بحوزته هدفه حفظ الحقوق، ويتضمن تسجيل الواقعة واسم صاحب الواقعة واسم المتهم واثنين من الشهود، كما يدون فيه الحكم بريئا أم مذنبا، كذلك يدون فيه الأحكام المادية أو المعنوية لحفظ الحقوق.
حالات كثيرة ذهبت لـ«عويمر»، لكنه لا يزال يتذكر أول حالة حضرت له كانت من منطقة تبوك بالسعودية، وهى زوجة كانت متهمة بقتل زوجها، وظلت القضية حائرة وغامضة لمدة ٢٥ عامًا عاش خلالها أهل القتيل بعار مقتل ابنهم، وليس لديهم دليل مادى على قيام زوجته بقتله، لكن كانت هناك شكوك.. حضر الطرفان أهل القتيل عند الشيخ عويمر ومعهم عم الزوجة المتهمة، الذى من المفترض أن يلحس البشعة، واشترطت فى بداية الجلسة قبول الدية، لكن رفض عم الزوج القتيل فى البداية، ثم وافق بعد ذلك، وكتبنا ورقة عرفية أن الدية مقبولة والسيئة مقتولة.
مضيفًا: قمت بتحمية الطاسة حتى أصبحت كما الجمر الأحمر، وطلبت من عم الزوجة أن يتمضمض بالماء ثلاث مرات، ثم يلحس الطاسة ثلاثًا، فقام بلحس الطاسة مرة، وفى المرة الثانية صرخ بعدما أكلت النار لسانه، وهنا ظهر أن الزوجة بالفعل هى من قتلت الزوج.. بعدها حاول عم الزوج القتيل أن يحصل منى على ورقة قبول الدية، التى قمنا بكتابتها ووقع عليها الطرفان، لكى يتمكن من قتل الزوجة وعرض مبلغ مالى كبير علىَّ، لكنى رفضت بشدة لأنها أمانة وقسم وعهد.
ويتذكر «عويمر» أشهر الحالات التى مرت عليه، حضر شاب اتهم والده بأنه تعدى على زوجته، وكان الشاب مُصرًا على اتهام الأب، وكانت مسألة صعبة خصوصًا أن الأب أصر على لحس البشعة لتبرئة نفسه، وهو يبكى بالدموع، وبالفعل أظهرت البشعة براءة الأب.. واكتشفنا أن سبب ادعاء الابن هم أهل زوجته بسبب رفض الأب للزيجة منذ البداية.
وذات مرة عرضت على قضية مجموعة من الشركاء كانوا يتعاملون فى التجارة برأس مال كبير واتهموا واحدًا منهم باختلاس مبلغ كبير ٢ مليون دولار، وطلبوا تبشيع المتهم صديقهم وشريكهم، وبالفعل كان هذا الشخص قد اختلس هذا المبلغ واعترف لى بينه وبينى بذلك، وعرض على مبلغا ماليا كبيرا لتبرئته فى البشعة، لكنى رفضت، وأصررت على أن يدلى باعترافه أمام شركائه لحل الموضوع بشكل ودى بعيدًا عن البشعة، لأنه مدان باعترافه، فأردت حل المشكلة وإنقاذه من النار وفعلا اعترف ورد المبلغ لشركائه.
الفنانون أيضا يأتون للبشعة، يقول الشيخ عويمر هناك حالة لفنانة معروفة شهيرة حضرت لى تتهم خادمتها بسرقتها، وحضرت الخادمة وظهرت براءتها، واتضح أن إحدى قريبات الفنانة المعروفة هى من سرقتها.. وحالة أخرى لشاب أخطأ مع فتاة واعترف لى، لكن أهله أصروا على تلحيسه البشعة، وهنا لا يجوز تبشيعه طالما اعترف، وقمت بحل الموضوع بشكل ودى.
«عويمر» يسعى لحل المشاكل، التى تأتى إليه وديًا، لأن نار البشعة صعبة، كما أن البشعة قسم وأمانة ولا يمكن التلاعب فيها، لافتًا «قمت بتبشيع ابن عمى فى قضية عرفية لأن هذا هو حق الله.. وأرفض تبشيع حالات قضايا المخدرات والسلاح». ويضيف: معظم المتعاملين معى من الصعيد والدلتا ومن البدو أيضًا، كما أستقبل ضيوفًا من بعض البلدان العربية من السعودية والإمارات والأردن والكويت.
«المصور» التقت ببعض الحالات، التى تعاملت مع البشعة أو حضرت إحدى جلساتها، ويقول أحمد محمود: نذهب إلى البشعة لأنه مجلس عرفى معترف به فى المناطق، التى يكثر فيها النظام العائلى أو القبلى، وقد حدث أن تعرض زوج شقيقتى إلى تهديد بالخطف والقتل، وكنا نشك فى شخص معين، وأبلغنا من يعمل عنده هذا الشخص بأننا نشك فيه، وإننا سنذهب إلى البشعة لمعرفة ما إذا كان مذنبا أم بريئا فوافق الشخص المتهم، وتعهدنا لمن يعمل عنده بأنه إن كان بريئا سنعيده سالما من خلال وسيط ثالث محايد كان معنا، أما إن كان مذنبا فسنسلمه للشرطة، ووافق الرجل، وكان الشخص الذى اتهمناه واثقًا من نفسه، ووافق بشدة على لحس البشعة فتولد لدينا شعور أنه قد يكون بريئا، وبالفعل لحس البشعة أمامنا ثلاث مرات ولم يحدث له شيء وظهرت براءته واعتذرنا له.
أما غريب أبو النجا فيقول: أعمل مع أحد المقاولين، وفى إحدى المرات كنا نعمل بإحدى الفيلات، فوجئت باتهام صاحب الفيلا لى بسرقة تليفونه المحمول، وطلب أن يصطحبنى إلى البشعة فوافقت لثقتى فى براءتى، وفوجئنا بصاحب الفيلا يعتذر لى وللمقاول، الذى أعمل معه بأنه وجد تليفونه المحمول، لكنى كنت على استعداد للذهاب للتبشيع دون خوف وثقة فى الله فى براءتى.
بينما قال على محمود: ذهبنا ذات مرة للبشعة بعد أن تعرض أحد أقاربى لعملية نصب من أحد الأشخاص، وطلبنا الذهاب إلى البشعة ووافق الشخص الذى نتهمه، ولكن عندما شاهد طاسة البشعة بعد تحميتها كما الجمر الأحمر خاف واعترف وأعاد الحق لأصحابه، وتم تسجيل ذلك فى محضر بوجود شهود.
فى المقابل، قال الدكتور عبدالله النجار: إن «البشعة ليست مقبولة دينيًا، لأنه لا يجوز مطلقًا استخراج الإقرار بممارسات إرهابية، وهى تأتى من باب تلفيق التهم للناس بمخالفة للشرع والقانون».
مضيفًا إن الشخص الذى يمارس الحرق والتنكيل والتعذيب فى حق جسده حتى يثبت أنه غير مدان أو مدين فى شيء ويثبت براءته أمام جلسات البشعة فهو يأتى بجرم فى حق نفسه.. والقاعدة هنا فى التحقيقات، التى تتم بالنيابة العامة والجنايات تحديدًا أن يثبت المتهم براءته مما هو منسوب إليه من جرم، وإثبات خلو الذمة لا يأتى على حساب الجسد.
وذهب «النجار» إلى أبعد من ذلك، مؤكدا أنه حتى فى إثبات الجرم فى حق متهم، هناك حق ثابت فى جميع الشرائع بأن تكون الوسيلة مشروعة، و«البشعة» نوع من التجارة تصب فى صالح القائمين على مثل هذه العادات والمظاهر، وهى نوع من الخرافة تأخذ شكلًا من أشكال الكهنوت لتضليل الناس والتلاعب بعقولهم، لافتًا إلى أن العاملين عليها يصبغونها بصبغة صوفية بأنها من فعل الأولياء، لكن هذه الأفعال دليل على التخلف الاجتماعى البغيض، فهى لا تقيم عدلا ولا حقا، ويجب محاربتها ومعاقبة كل من يفعل هذه الأفعال.. فهذه خرافات ليست من الدين ولا القانون.