الجمعة 17 مايو 2024

بليغ .. نغم اللحن الحزين

17-9-2017 | 11:52

بقلم: محمد المكاوى

عرفت الموسيقار بليغ حمدي منذ منتصف الثمانينيات وحتي رحيله في سبتمبر عام 1993 وخلال تلك السنوات القليلة التقيته عدة مرات، هو نجم كبير في عالم التلحين وأنا أبدأ خطواتى المهنية في عالم الصحافة في «الكواكب»، كانت تشغلني في تلك المرحلة أسباب تردي حال الغناء ولماذا أصبح الكم الأكبر يغلب عليه الطابع التجاري والإسفاف الفني؟ والقلة القليلة من الأغنيات التي تقدمها شادية ووردة وصباح وميادة وهانى شاكر ومحمد رشدي والعزبي وعفاف راضي ومحمد ثروت وعلي الحجار ومحمد الحلو وعماد عبدالحليم هي التي لا تزال تحترم عقل ومشاعر الجمهور، وفي هذه الأثناء ذهبت إلي الموسيقار الكبير في مكتبه بالزمالك لأسأله عن أسباب هبوط الحركة الغنائية ولماذا قلت أغنيات الكبار وأصبح السائد هو الغناء الهابط والمسف؟، وتركت جهاز التسجيل يسجل كل ما يقوله الموسيقار الكبير الذي اعتبره العندليب الأسمر عبدالحليم حافظ ذات يوم في مطلع السبعينيات وهو يقدم لحنه البديع «مداح القمر» بأنه أمل مصر في الموسيقي.. في هذا اللقاء الأول.. اكتشفت أن بليغ حمدي وكانت حادثة سميرة مليان - الفتاة التي انتحرت من منزله - لا تزال في بدايتها.. فنان سريع البديهة لا أكاد أنتهي من سؤال إلا وأجد الإجابة حاضرة سريعة علي لسانه وكأنه قد عرف أسئلتي مسبقا.. وأحياناً كان يستوقفني ليسجل خاطرا موسيقيا داعب أوتار عوده المميز الذي كان يحتضنه طوال لقائي معه حيث كان يجلس «قعدة عربي» حيث يفضل التلحين ويرتدى نظارته الطبية ليدون نوتته الموسيقية ... وقتها كان يجهز بعض الألحان لعفاف راضي وشادية وعلي الحجار ورغم أن هذا التحقيق الصحفي ظل حبيس الأدراج عدة أشهر إلا أن اتصالاتي بالموسيقار الكبير لم تنقطع خاصة عندما تعرفت علي صديقه الحميم المطرب محمد رشدي ولما تطورت أحداث القضية واضطر للسفر خارج مصر طوال خمس سنوات إلي أن حكم القضاء في جلسة النقض ببراءته فوجئت بالمطرب الكبير محمد رشدي يقول لي وأنا أزوره فى فيللا «أدهم» بالدقي حيث كان يعيش: «بليغ في مصر.. ياليتنا نزوره معا لنحتفي به» واتفقنا علي الذهاب إليه في منزله بميدان سفنكس بالمهندسين. كان اللقاء دون موعد مسبق هكذا تعود معه محمد رشدي عندما كان يزوره فهو فجأة يطب عليه دون سابق إنذار.. وهذه المرة وجدت بليغ حمدي غير بليغ الذي عرفته قبل خمس سنوات صحيح أنه كان لا يزال يتمتع بسرعة البديهة وحماسه في تقديم موسيقي وألحان تملأ الكرة الأرضية ولكن شيئا ما داخله كسرته الغربة وسنوات الظلم التي عاني منها وبعده عن مصر وكأنه كان في منفي اختياري.

وتحدث بليغ عن جديده الغنائي وكيف استطاع خلال سنوات الغربة أن يحول هذه المعاناة وهذا الألم إلي إبداع موسيقي وغنائي، وعندما سألته عن الأغنية التي كان يرددها دائما وهو في الغربة أجاب علي الفور «ياحبيبتي يامصر» للسيدة شادية، ولم يقل: لحني أنا ولكن اعتبرها أغنية شادية وأسهب في وصف صوتها وهي تغني هذه الأغنية وتأثيرها علي كل من يستمع إليها وشعوره بالحنين للوطن سواء هو خارج بلده بإرادته أو مرغما، ولم يقل لي إن الجملة اللحنية القصيرة البديعة التي وضعها ليعبر بها عما يجيش في صدور المصريين من حب وانتماء هي أحد أسرار هذا النجاح بالإضافة إلي كلماتها التي صاغها الشاعر محمد حمزة وتفيض بالعشق وحب المصريين لبلدهم

ما شفش الرجال السمر الشّداد فوق كل المحنْ

ولا شاف العناد في عيون الولاد وتحدي الزمنْ

وبعد أقل من عامين حاول فيهما الموسيقار الراحل تعويض غيابه عن الوطن فقدم أوبريتا غنائيا جمع فيه كل شباب المطربين «أنا من البلد دي» إلي جانب عدد من الألحان لشادية ووردة إلي أن عاني من المرض في شهوره الأخيرة ليرحل عن دنيانا في مثل هذا اليوم منذ 24 سنة بالتمام والكمال في أحد المستشفيات بعدما ملأ الدنيا بالأنغام والألحان التي لا تزال ملء السمع والوجدان.