الجمعة 3 مايو 2024

جمال الغيطاني.. عامل النسيج و النوتة البيضاء !

د . حسام عقل

الهلال لايت 16-5-2023 | 10:13

د . حسام عقل
  • يوشك جوهر صناعة النسيج في حالتي القماش و الحكي أن يكون واحدا ، وتوشك فلسفة ضم الخيوط و فتلها ، بطريقة معمارية مثابرة أن تكون فلسفة بنائية واحدة
  • ظلت مهارة الحكاء صانع النسيج المثابر، سمة ملازمة ، تصاحب الغيطاني وتلازمه، حتى في رحلته الصحفية ، التي قادته ، من خيوط السجاد ، إلى بلاط صاحبة الجلالة
  • حين أشرف الغيطاني على سلسلة " الذخائر" احتفظ بذات الموازين و المعايير (الغيطانية) الخاصة ، في تضفير النسيج ، و ضم خيوطه ، و تشكيل تعاشيقه و أبنيته

يعد الروائي الكبير الراحل " جمال الغيطاني " ( 1945 _ 2015 ) ، مركز ثقل الوازن ( كما يقول أشقاؤنا في المغرب ! ) ، شديد الفرادة و الممايزة و الإشعاع ، في مسيرة القص العربي المعاصر ، منذ انقداح شرارته الأولى ، مع سردية : " زينب " الرائدة للراحل " محمد حسين هيكل "  ، مرورا بأبرز حلقات القص العربي ، و مساراته النوعية المفارقة عبر تاريخه ،  بإيلاء الاعتبار إلى خصوصية القص الذي جادت به قريحة الغيطاني ، و شكلته ريشته المترعة بالصنعة و المراس و الموهبة القصصية المجبولة معا ، في معادلة هارمونية شديدة الاتساق ،  فضلا عن  معماريته البنيوية الأنيقة ، التي تكاد تشبه نسج السجادة المرصعة بالنقوش و التهاويل _ و هي المعمارية التي مدارها الصورة الروائية الخاصة المميزة المصقولة ،  التي تتلاحق و تتدفق بنفس قصصي ماراثوني مدرب _و لا نكاد نشتط أو نغلو إذا ما قررنا بأن الغيطاني القاص ، الذي تعلم نسج خيوط الصورة القصصية و الروائية ، و فتل جديلتها ، منذ نصه القصصي المبكر : " نهاية السكير " ، و هو يضم النسج الحكائي _ خيطا خيطا _ يوشك أن يتشابه مع الغيطاني ، عامل النسيج ، الذي تعلم بدوره نسج قماش السجادة بدأب و تريث _ خيطا خيطا _ و يعلم الدارسون المحققون لسيرة جمال الغيطاني ، أنه استهل مسيرته المهنية ، عاملا للنسيج، و صانعا للسجاجيد ، حيث تخرج في مدرسة الصنائع و الفنون بالعباسية ، في أعقاب دراسته الابتدائية بمدرسة الجمالية ، و حتى قيض له الإشراف على مصنع السجاد بالمنيا ، حين شب عن الطوق و التحم بالحياة العامة .

إن جوهر صناعة النسيج ، يوشك في حالتي القماش و الحكي ، أن يكون واحدا ، فضلا عن أن فلسفة ضم الخيوط و فتلها ، بطريقة معمارية مثابرة ، توشك أن تكون فلسفة بنائية واحدة تقريبا ! و هنا يبرز بوضوح تكرر ذات " البنية "، بذات النهج النسقي البنائي ، القائم على فكرة تضفير النسيج ، في نصوص الغيطاني و تجاربه و مساراته ، بوجه عام . فالنظر إلى الخيط المنفرد ، الذي تشكل منه النسيج الكلي ، في مخرجاته الإجمالية الأخيرة ، يقطع بأن هذا الخيط منفردا ، يختلف عنه ( أي عن هذا الخيط ذاته ) متلاحما مع أخواته من الخيوط ، إن هذا النسج الأولي _ منفردا قائما برأسه ، و متضاما ملتحما _ هو السمة المائزة الخاصة ، التي تعلمها الغيطاني الحكاء ، من صناعة النسيج ، حيث بدا  الغيطاني و هو يمد سجادته المفعمة باللون الزاهي لتمنحنا بهجة الأمكنة  و غضارتها ، هو _ فيما أرى _ الغيطاني ذاته ، و هو يبسط حكيه ، و يضفر حدوته بأناة ، و يبرع في تخليق عوالمه القصصية ، التي أدهشتنا في مجموعته القصصية المبكرة: " أوراق شاب عاش منذ ألف عام " ، و ظلت تدهشنا في : " الزيني بركات " ، و " البصائر و المصائر " ، و " دفاتر التدوين " و غيرها من تجاربه الفاتنة ، حكيا و قصا  . و على أصعدة أخرى ، فإن فلسفة الأنسجة _ المنفردة و المتداخلة _ تصحبنا في وجه آخر من وجوه السرد ( الغيطاني ) ، بالنظر إلى الفضاء الزماني المترامي ، الذي تعامل معه الغيطاني _في قصه و حكيه _ و شكله على عينه ، و هو فضاء جذب خيط النسيج السردي من الماضي التاريخي _ خصوصا الماضي المملوكي و الفاطمي _ ليشده إلى هواجس ( الحاضر الراهن العصري ) وانشغالاته و معاركه و رؤاه .

و قد تجلى هذا الملمح الزماني المنوه به ، كأجلى ما يكون ، في رائعة الغيطاني : " الزيني بركات " ، ذلك أن القماشة الزمنية المباطنة للنص ، ترتد بنا إلى القرن العاشر الهجري ( زمن السلطان الغوري تحديدا ) حيث يتصدرالواجهة ،  دورالزيني بركات ، الذي يقود نشاط العسس ، للتلصص على الخصوم ، و الإيقاع بهم لمصلحة البلاط ، بمهارة تآمرية مشهودة ، لا حد لبراعتها ، و لا تخوم لنتوغلها و تأثيرها الغائر البليغ . لكن مط نسيج القماشة _ زمنيا _ على النحو الذي آنسناه في : " الزيني بركات " ، قد قادنا إلى تجل من تجليات " الإسقاط العصري " ، حيث شاع في أروقة السياسة العربية المعاصرة ، ذات النهج ، في اصطناع مكائد العسس ومؤامراتهم ، للإيقاع بالخصوم ! و كل من استبطن التجربة السردية المدهشة و تمثلها في : " الزيني بركات " _ بوجهيها الزمنيين _ استطاع ،  بيسر وطواعية ، أن يأنس في النسيج السردي ، تجليات الماضي و الحاضر معا ، وترادف الأزمات و تشابهها ، مع استمرار الإشكاليات العربية و توطدها ، وتسلط داءاتها المزمنة  المستوطنة !

و ظلت مهارة الحكاء صانع النسيج المثابر ، سمة ملازمة ، تصاحب الغيطاني وتلازمه ملازمة الظل للعود ، حتى في رحلته الصحفية ، التي قادته ، و تقلبت به ، من خيوط السجاد ، إلى بلاط صاحبة الجلالة ، حيث قيض له أن يرأس تحرير واحدة ، من أهم تجارب الصحافة الثقافية في مصر ، أعني جريدة : "أخبار الأدب " . فقاد التحقيقات الصحفية على مهل ، و اضطلع بتغطية النشاط الأدبي بتريث و مهنية ، و مد رواق تجربة تحريرية صحفية مميزة ، في مقالاتها و رؤاها النقدية ، بشكل تراكمي مثير للإكبار ، بذات المهارة في ضم النسيج ، خيطا خيطا ، و تشكيل المعمار الكلي ، وحدة وحدة .و أوشكنا أن نشم _ مع نسيج خيوط تجربته الصحفية الراسخة الأنيقة _ نكهة " المقتطف " أو " الرسالة " أو " المجلة " أو " البلاغ " ،  أو غيرها من تجارب الصحافة الأدبية المرموقة ، التي تشكل الوعي الأدبي بمضاء ، و تصنع المعارك الأدبية برسوخ دون شخصنة أو ابتذال ! و حين قيض للغيطاني أن يخوض تجربة الإعلام في الفضائيات ، من خلال إحدى القنوات الخاصة ، لازمته مهارة عامل النسيج المثابر المتحمل ، المجبول بطمي مصر ، و العاشق لتراثها المتجذر ، فدخل البلاتوهات و الأستوديوهات ، بروح عامل النسيج البناء الصبور ، الذي ينشغل بمعارك البناء _ لا التقويض أو التأجيج أو الهدم _ فحمل الكاميرات ، و أعاد _ مع مشاهديه _ معاينة الفتنة التاريخية المثيرة في القاهرة الفاطمية و الأيوبية و المملوكية ، دون أن تبرحه روح " عامل النسيج " ، أو صانع السجادة ، التي تفترش أرضية الغرفة ، عاكسة ألوانها المفعمة بالنضارة و التورد ، و كرنفالات الأطياف اللونية  البهيجة .

فضل الغيطاني  في أصفى خياراته الفنية أن يكون الماضي التاريخي _ العصر الوسيط تحديدا _ جزءا عضويا من خيوط لوحته الكبيرة ، و نسيجا بنائيا فريدا ، في جداريته المصرية الضخمة ، التي تطلق _ من عقيرتها _ صرخات الماضي ، و تحتفظ بعمق الصرخة في الحاضر ، الذي لم تبارحه ، بعد ، أسئلة التاريخ البعيد ، الضارب بأطنابه في القدم !

و حين أشرف على سلسلة " الذخائر"  ، المعنية بالتراث ، احتفظ بذات الموازين و المعايير (الغيطانية) الخاصة ، في تضفير النسيج ، و ضم خيوطه ، و تشكيل تعاشيقه و أبنية الأرابيسك المدهشة في خيوطه و خطوطه ، فأعاد تشكيل الحاضر و الماضي و المستقبل ، داخل قارورته الزجاجية المصقولة المميزة ، و أعدنا معه اكتشاف المتنبي و المقريزي ، و نصوص ألف ليلة و ليلة ، بكل سحرها و غرائبيتها ، و عنفوانها الوجداني المستوفز . و تبقى من حياة جمال الغيطاني ( كوة ضوء ) ، لابد أن نشير إليها ، ليفيد منها المشهد الأدبي الراهن ، بكل وضعياته الاستقطابية المأزومة ، ومعاركه ( المتشخصنة ) التعسة _ لا الموضوعية _ في غير طائل أو جدوى ، فصنعة النسيج ، تعلمنا الدقة و المهارة ، و المثابرة مديدة الأنفاس  ، حين نضم النسيج _ خيطا خيطا _ و نحلم باكتماله و ذروة نضجه ، لتتحول القطعة الصغيرة ، إلى سجادة إيرانية مخملية  مدهشة ، و هنا لا يتعين أن ننسى سمة جديدة تضاف إلى سمات المهارة و المثابرة و الإتقان ، أعني ( سمة التواضع ) . فعامل النسيج لا مفر أمامه ، من أن ينحني على خيوطه بتواضع ، و يجثو على نسيجه معقود الخيوط ، في غير غطرسة أو عجرفة أو كبر !

و في هذا الخصوص ، أتبعث أو أستدعي  _ من عمق الذاكرة _ المرة الوحيدة التي ناقشت فيها نصا قصصيا للغيطاني ، في ندوة حاشدة حضرها رموز المشهد الأدبي _ آنذاك _ و قبل رحيله بعام ،  حيث تحلقنا حول تجربته السردية المميزة ، التي عنونها بعنوان : " رن " ( في إشارة إلى التعبير الشعبي المعروف : " شنة و رنة "  ! ) ، ضمن سبعة مجلدات ، أطلق عليها : " دفاتر التدوين " ، ربما في أصداء تناص ضمني بعيد ، مع " دفاتر " " أنطونيو جرامشي " المفكر الإيطالي الذائع .

و أعترف أنني مضيت في تعرية ما اعتبرته " مثالب " في هذه التجربة القصصية،  و لم أتحفظ في رصد هناتها و عيوبها الفنية و مظاهر الضعف الجمالي والفني ، ربما ببعض القسوة أحيانا ، و  خصوصا حين قارنتها  بنصوص أخرى كانت _ فيما أرى _  أوفر نضجا ، و أتم اكتمالا ، من الوجهة الفنية ، مثل: " حكايات الغريب " أو " التجليات " أو غيرها من النصوص _ الأنضج نسجا و الأكثر اختمارا _ و لمحت في عيون بعض الحضور ، ملامح القلق من حدة بعض الملاحظات ، بدافع الخوف من استياء الغيطاني المتوقع ،  أو غضبته الناقمة المحتملة ، و حين أنهيت مداخلتي و رفعت بصري للغيطاني ، بصورة تدريجية وئيدة ،  ، وجدته _ وسط دهشتي و دهشة الحضور _ يخرج ، من حقيبته ، نوتة بيضاء صغيرة ، و يدون ملاحظاتي ، بتواضع و اهتمام ، قبل أن  يشكرني بامتنان_ على الملأ _ على ما أسماه ب : " القراءة النقدية المسئولة " !

و هنا عاينت _ عن كثب _ " فضيلة التواضع " ، و تيقنت من جدواها و نبلها ، و خصوصا حين أسلمتنا المقادير_ في فترة ركوب الترند ! _  لزمن ، " تأله " فيه الصغار ، و منحوا ذواتهم ألقاب القداسة  في غير منجز أحيانا ( أقول منحوا ذواتهم ، و لم يمنهحم جمهورهم المفترض ! ) ، أو منحوا ذواتهم ألفاظ التفخيم النرجسي المتورم بمنجز ضحل ، لا يصمد  مطلقا ، أمام أي نقد جاد !

و في كل مرة كنت أطالع فقاعات الهواء ، التي لم تقدم بقلمها منجزا واحدا يستحق التنويه ، أو سطرا سرمديا  واحدا يستأهل الخلود ، كنت أتذكر الغيطاني ، عامل النسيج الذي انحنى على خيوطه المنسوجة ، بوجد و تحنان و تواضع ، في غير تاله أو غطرسة ، ليوطن _ بحرفه الأنيق _ للأجيال طريق المستقبل ، و حين واجهه بعض نقاده ، بما اعتبروه عوارا فنيا في بعض تجاربه و نصوصه  ، لم يخجل أو يجد غضاضة ، في أن ينحني و يخرج نوتته البيضاء ، ليدون الملاحظات ، بامتنان و دماثة و تواضع ، كما يليق بالكبار.

Dr.Randa
Dr.Radwa