السبت 27 ابريل 2024

"مالك الحزين" الذى علمنا الاختزال إبراهيم أصلان من "بوسطجى" إلى أديب كبير


رشدى الدقن

مقالات16-5-2023 | 10:29

رشدى الدقن
  • "بوسطجى" الوظيفة التى تحصل عليها أصلان بالابتدائية القديمة.. وهى نفسها المهنة التى صبغت عليه أشياء كثيرة فبدت حياته كلها رسائل تلغرافية
  • أصلان  ظل يعمل موظفا  حتى نهاية الستينيات حيث ساهم الروائى الكبير الراحل نجيب  محفوظ والناقدة الراحلة لطيفة الزيات فى نقله إلى وزارة الثقافة  ليتفرغ للكتابة.

 

حياة "ابراهيم أصلان " (3 مارس 1935 - 7 يناير 2012) أحد أبرز كتاب جيل «الستينيات» فى مصر... رواية مدهشة ثرية بالخبرات والتجارب التى تضيق بها حياة فرد واحد، ما انعكس على أعماله الأدبية التسعة وثراء عوالمها.

الاقتصاد في استخدام اللغة، الأحكام في البناء, الاهتمام بالشخوص والأعماق المظلمة والطريفة للإنسان المصرى، وحدة الحدث لكى يسهل السيطرة عليه, شعرية اللغة, المساحة المحدودة التى تدور فيها الأحداث .. كما فى  مالك الحزين الشهيرة بالكيت كات .. ووردية ليل، فضل الله عثمان، النيل، هذه المناطق الأليفة والذي عقد معها صداقة .. كلها تذهب بنا إلى بدايات "أصلان" وعمله لفترة ليست بالقصيرة "بوسطجى" وهى الوظيفة التى تحصل عليها بالابتدائية القديمة.. وهى نفسها المهنة التى صبغت عليه أشياء كثيرة فبدت حياته كلها رسائل تلغرافية يجيد التعامل معها واختزالها.

عمل الأديب الكبير"  إبراهيم أصلان " في هيئة البريد - لفترة من الزمن  وهو ما وثقه بنفسه  فى روايته البديعة وردية ليل - كان له تأثيره  الواضح والمستمر فى الاقتصاد اللغوى الغالب على أعماله، حيث يستعمل لغة تلغرافية بسيطة تقترب أحيانًا - لفرط اختزالها وتكثيفها - من التعبير الشعرى، بل نراه يكتب على طريقة  قصيدة التفعيلة، ليوحى بشاعرية اللغة وقدرتها على الإيجاز ... يستمد شخوصه ببراعة تامة من الحي الشعبى الذى عاش فيه "الكيت كات"، يرسم بكتاباته أزقة وحواري، فتشعر وكأنك تعيش فيها وتتحرك داخلها.

ولد إبراهيم أصلان بقرية شبشير الحصة التابعة لمركز طنطا بمحافظة الغربية ونشأ وتربى في القاهرة وتحديدا فى حى إمبابة ولم يحقق تعليما منتظما منذ الصغر، فقد التحق بالكتّاب، ثم تنقل بين عدة مدارس حتى استقر في مدرسة لتعليم فنون السجاد لكنه تركها إلى الدراسة  بمدرسة صناعية.. وبعدها التحق بهيئة البريد  كموزع للتلغراف وهو فى الثامنة عشر  من عمره ... ثم  تحول من عمله في البريد ليلتحق بهيئة المواصلات السلكية واللاسلكية بشارع رمسيس، وفي مقرها الرئيسى عمل فى الدور الرابع بعمارة يطلق عليها العاملون فى الهيئة "عمارة الأوتو"

حياة إبراهيم أصلان كعامل هي التجربة التي ألهمته «ورديه ليل» ... والتى  " يبدو "سليمان" موظف البريد هو قاسمها المشترك من حيث الشخوص، وهو الذى تنعقد حوله أحداث السرد، فى مكان عمله بهيئة البريد، لتحتل صالة الاستقبال بمصلحة البريد المساحة العظمى من ساحات القص فتكون هى القاسم المشترك المكانى الذى تدور فيه حركة الحدث، وبالمثل يكون الليل هو الزمن الذى تجرى فيه معظم الأحداث، وتدور الأحداث حول مجموعة من البشر يؤدون مهام عملهم الليلى.

وأهم ما يميز هذه الرواية هى أنها تقودك إلى عالم البساطة الحقيقى، الانفعالات البسيطة الخاصة بالشخصيات، تتكون الرواية من 15 فصل فى عالم البريد، والبطل في معظم هذه الأحداث هو "سليمان" ، والذي يظهر في الفصل الأول بلقائه مع واحدة من الفتيات، التي تدعوه إلى السينما، لكنه يرفض لكي يذهب إلى مقر البريد، حيث يعمل في وردية الليل.

وفي الفصول الأخرى تدخل إلى عالم البساطة من خلال الانفعالات التى تخرج من الشخصيات فى الرواية، مع وصف الاديب الكبير إبراهيم أصلان البسيط، والذى يجعلك مقتنعًا أنه يملك موهبة عبقرية فى السرد ... والتى تتسم بالتركيز والتكثيف والإيجاز والاقتصاد في لغة الوصف، والدقة في التراكيب الدالة، لتكون الأحداث بديلًا عن جمل الوصف، وتكون انفعالات الأشخاص بديلًا عن وصفها من الخارج، فيما يأتى  الوصف لأهداف محددة ... فالعناية بالتفاصيل في السرد، والاهتمام بالتركيز والسرعة والتقطيع في الحوار، قد أكسبوا الرواية عند إبراهيم أصلان طابعًا اختزاليًا يجعلها كأنها مجموعة من المشاهد القصيرة المتتابعة في الزمن، وإن غلب عليها مكان واحد وزاوية رؤية واحدة.

ظل أصلان يعمل كموظف بسيط فى هيئة البريد حتى  نهاية الستينيات  حيث ساهم الروائي الكبير الراحل نجيب محفوظ الحائز على جائزة نوبل للآداب والناقدة الراحلة لطيفة الزيات في نقل " أصلان" من عمله كموظف بسيط في البريد إلى وزارة الثقافة بمنحة للتفرغ للإنتاج الثقافي، بشرط  أن يكتب رواية، وهو ما فاجأ أصلان الذى قرر فى البداية ألا يكتب إلا القصة.

وحكى إبراهيم أصلان ما حدث مع نجيب محفوظ ، فى قصته "شىء من هذا القبيل"، وكيف بدأ الكتابة فى باكورة رواياته "مالك الحزين"، وهى الرواية  التى لاقت اهتمامًا  كبيرًا من النقاد والمثقفين، وتم اختيارها ضمن أفضل مائة رواية عربية .. وتحولت  بعد ذلك إلى عمل سينمائى ، وواحد من علامات السينما المصرية ، للمخرج  داوود عبد السيد، "الكيت كات"، واختير الفيلم هو الآخر من بين أهم مائة فيلم أنتجتها السينما المصرية.

وبحسب مجلة "المجلة" التي  كان يرأس تحريرها يحيى حقى، في عددها 116، الصادر في أغسطس 1966، عمل أصلان موزع برقيات لفترة وجيزة، ثم انتقل ليلتحق بقسم «الإداريات»، أو «التلغراف الدولي» فى الستينيات.

وفي تلك الفترة نشرت مجلة «المجلة»  تعريفاً به جاء فيه أنه يعمل بإدارة «المواصلات اللاسلكية» .. وفى تعريف المجلة البسيط  بأصلان قالت: «من مواليد طنطا في 3 مارس 1937 .. يكتب القصة القصيرة والمسرحية منذ ما يقرب من أربع سنوات ... نشر عدداً من القصص القصيرة والمقالات في بعض المجلات المصرية والعربية ... أعزب»، ونشرت مع التعريف  صورة.

و نشرت «المجلة» قصة أصلان  «بحيرة المساء» على خمس صفحات مع تعقيب للدكتور شكري محمد عياد ، أثنى فيه على الأسلوب وقال : «هذه قصة جيدة ، وهى أول قصة أقرأها للكاتب الشاب إبراهيم أصلان .. فليحرص على تنمية موهبته .. وليكن دائماً أصيلاً وصادقاً .. لقد أعجبني من هذه القصة أن الكاتب لا يحاول أن يصطنع الحداثة كما يفعل  كثير من كتاب القصة الشبان .. إنه لا يزال يكتب في حدود التقاليد التأثرية التي نعرفها في تشيكوف وكاترين منسفلد ومعظم كتاب القصة القصيرة فى النصف الأول من هذا القرن».

"إبراهيم أصلان" عاش بروح الموظف البسيط ..هادئ حتى فى أعماله .. قدم لنا فقط  تسعة أعمال على مدار حياته الممتدة حتى السابعة والسبعين .. إضافة لكتابين صدرا بعد رحيله فى العام 2012 ... لم يدخل المعارك الأدبية ولم يكن له شلة .. فقط أصدقاء يلتقى بهم ويرتاح للحديث معهم .. فلا تجده فى أماكن المثقفين ولا فى الندوات والسهرات الثقافية .

المعركة الوحيدة التى دخلها  إبراهيم أصلان مجبرا ..وكان أحد أطرافها هى واحدة من أكبر الأزمات الثقافية التي شهدتها مصر .. وبالتأكيد لم يكن يرغب في ذلك ... وكانت في سنة 2000 م حين نشرت رواية وليمة لأعشاب البحر لكاتبها حيدر حيدر وهو روائى سورى، ضمن سلسلة آفاق عربية التي تصدر عن وزارة الثقافة المصرية وكان يرأس تحريرها إبراهيم أصلان.

تزعمت صحيفة الشعب والتي كانت تصدر عن حزب العمل حملة على الرواية وقالت إنها  تمثل تحديا سافرا للدين والأخلاق، بل وأنها تدعو إلي الكفر والإلحاد .. مما أثار جدلا عارما فى الأوساط الثقافية، وحشد طلاب الأزهر العديد من المظاهرات بعد أن استفزتهم المقالات التي تصدت للرواية وترفضها ظنا منهم أنها ضد الدين بالفعل، ولم تهدأ الأوضاع وتم التحقيق مع إبراهيم أصلان وتضامن معه الكثير  من الكتاب والأدباء والمفكرين، غير أن مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر قد أدان الرواية والقائمين علي نشرها في مصر وأعتبروها خروجا عن الآداب العامة وضد المقدسات الدينية ... وبنفس الهدوء والبساطة التى عاش بها .. قدم أصلان استقالته وفضل الابتعاد عن المعركة كلها.

Dr.Randa
Dr.Radwa