أجمع المتخصصون والمؤرخون على الضعف الأدبي الغير مسبوق في العصر العثماني، واجتهد الأكاديميون وأعلنوا أن ذروة التقهقر الأدبي كان في العصر العثماني ،لكن التمهيد لهذا الضعف سبق دخول العثمانيين لمصر، و يعود بالدرجة الأولى لعصر دولة المماليك؛ حيث ضعف الإحساس اللغوي وضعفت مَلكْة النقد لدى اللغويين في العصر المملوكي؛ بحيث لم يعودوا يدركون الفروق الأساسية بين العربية الفصيحة والعربية الدارجة، ولذا انتشرت الألفاظ والقوالب والتعبيرات الشعبية على أنها عربية فصحى!!.
ومع نهاية العصر المملوكي كاد الإحساس اللغوي تجاه سلامة اللغة الفصيحة أن يتلاشى؛ لذا تقبل الشعب بقدراته الإبداعية الأدب الشعبي بشكل غير مسبوق، كمُعبر وشارح لحالته.
فتحولت نظم الشعر لوسيلة تسلية كما في "شعر الأحاجي والألغاز"، أو لصياغة العلوم كما في "الشعر التعليمي" وهو يقع خارج دائرة الأدب لخلوه من العاطفة والخيال، أو للتأريخ الشعري الذي يقوم على حساب الجمل في ضبط تاريخ واقعة ما بحروف مُرتبة أبجدياً لتتألف منها كلمة أو جملة أو شطر؛ في ظل غيابا كاملاً للناقد الحصيف الذي يقوّم ما يقال ويصححه.
وحينئذ غرقت البلاغة، في نزعة منطقية ابتعدت بها عن رونق النصوص الأدبية وطبيعتها الوجدانية، وأفقدتها بالتالي دورها النقدي التقويمي.
وجاء العثمانيون؛ وأقام سليم الأول بمصر نحو ثمانية أشهر؛ نقل خلالها إلى إسطنبول ما في مصر من غنائم وذخائر ونفائس المخطوطات. ولأنه كان حريصاً على استمرار سيطرة العثمانيين على مصر
فقد أخذ معه كل من كان له نفوذ وإمرة من المماليك، لأنه لم يأمن بقائهم فيها، ووضع لحكم مصر نظاماً يكفل عدم استقلالها، فجعل مقاليد الحكم في ثلاث سلطات تراقب كل منها الأخرى وهي (الوالي وجيش الحامية والمماليك) ؛ أي أنه أدمج المماليك في سلطته العثمانية، ولذا لم يشعر أغلب المصريين باختلاف كبير في شكل الحكام وأصولهم، فقد ظلوا وحتى النهاية غرباء عن المصريين وعن لغتهم.
وبالتالي لم تكن هناك فرصة لتحسين الوضع الثقافي في مصر العثمانية، لأن السلطات الثلاثة كانت في الغالب غير مُلمة بالعربية، ولأن لغة الإدارة والدواوين تحولت إلى التركية، ولذا جاءت العربية في المقام الثالث بعد التركية والفارسية وكان الأتراك يعرفونها بشكل أفضل.
وهو ما مهد إلى إلغاء ديوان الإنشاء، وكان له أثر بالغ في الكتابة الأدبية فيما مضى، وبالتالي زاد التدهور الثقافي، وساءت الكتابة بوجه عام رغم وجود بعض الكتاب المتميزين.
ولعل أكبر خطأ ثقافي للعثمانيين في مصر أنهم لم يجعلوا بناء المدارس سياسة متبعة، وأنهم تركوا العناية بالمدارس القائمة لأهل البر والتقوى الذين قلوا بسبب التدهور الاقتصادي والجباية.
وكانت النتيجة هو تناقص عدد المدارس وتضاءلت طبقة العارفين بالقراءة والكتابة وقلّ مستهلكو الأدب الفصيح، وبالتالي ظل المجتمع المصري في حالة التردي الثقافي والأدبي والفكري المستمرة من العصر المملوكي، في ظل الدولة العثمانية والتي كانت في أوج قوتها العسكرية ولكنها تخلو من أية قامات ثقافية كبرى.
طال الأدب الفصيح تغيرا كبيرا ؛ حيث اتجه أصحاب المواهب ممن يفتقدون أدوات الأدب الفصيح، لعامة الشعب خاصة طبقاته الدنيا لتناول مشاكلهم وقضاياهم الاجتماعية ولكن بالعامية الدارجة، فأنتجوا أدبًا هو الأقرب لروح الشعب.
وإلى جانب الشعر العامي حُصِر الأدب الشعبي في ثلاثة مجالات أخرى هي( الملاحم الشعبية وقصص الفانتازيا ومسرح خيال الظل).
انحطاط الأدب في العصر العثماني تجاوز حقبة الثلاثة قرون ،ربما أشرفت نهايتها على البدء بوصول نابليون إلى مصر، حيث كانت مصر ما تزال ولاية عثمانية.
ولعل الوثبة التي حققتها مصر في عصر محمد علي لا تعود برمتها لحملة نابليون الاستعمارية، إنصافاً للتاريخ، وإنما تعود لمحمد علي ومشروعه، فقد وضع محمد علي خطة النهوض على أساس عسكري؛ بإنشاء جيش حديث قوي يقتضى تقدماً في مجالات عدة تتصل
بالصحة والتعليم والتسليح.
فاعتمد محمد علي باشا على توظيف الأزهر وطلابه، وأرسل المتفوقين منهم في بعثات ليكونوا بعد عودتهم في خدمة مشروعه.
ورغم أن محمد علي حاول التمرد مرارًا على السلطة العثمانية إلا أنه ظل يتبعها من الناحية القانونية، وقد واظبت السلطة العثمانية على تعيين ممثل عثماني لها في مصر، وقد استمرت هذه السياسة العثمانية حتى الحرب العالمية الأولى.
ولم تنتهِ الولاية العثمانية على مصر بشكل رسمي إلا بإعلان بريطانيا الحماية على مصر في الثامن عشر من ديسمبر 1914، وتغيير اسمها ليصبح «السلطنة المصرية»، وعزل الخديوي عباس حلمي الثاني، وحلّ محله السلطان حسين كامل.
حتى وإن لم نأخذ بالتقسيم السياسي فإن روح مصر الغالبة على العصر ظلت عثمانية واستمر ذلك حتى فترة الحرب العالمية الأولى، وحتى ذلك الحين كان الجيل الأدبي والفكري المتصدر ذو نزعة عثمانية واضحة ويمكن أن نمثل لذلك بمحمود سامي البارودي في مرحلته المبكرة، وبأحمد شوقي في كل مراحله.
والمحصلة أنه لا نقف بأدب مصر العثمانية عند وصول نابليون أو جلوس محمد علي باشا على كرسي الحكم في مصر ولكن أن نمد ذلك حتى الحرب العالمية الأولى، حيث هُزِم العثمانيين وأُخرجوا من مصر والشام عسكريًا وثقافيًا.
وهو ما يجعلنا نحدد الانحطاط الأدبي والثقافي بدءاً من حقبة المماليك، واستمراره بقوة الدفع الذاتي وعدم كفاءة العثمانيين ثقافياً، ثم نتبعها بمرحلة بدايات البناء و التطور الثقافي والأدبي بفعل الوالي العثماني محمد علي باشا، على الرغم من كون مصر كانت تتبع العثمانيين فعلياً!!.