الأحد 12 مايو 2024

قُلة الحاجة فضة

مقالات26-5-2023 | 15:03

اعتاد المصريون في فترات سابقة على وضع ماء الشرب في قلل مصنوعة من الفخار، فقبل انتشار الثلاجات الكهربائية المتوفرة الآن لدى الجميع لم تكن هناك وسيلة مناسبة لحفظ ماء الشرب باردًا سوى تلك الطريقة البسيطة .

 

تقوم كل سيدة بوضع صينية من النحاس على الشباك بها عددا من القلل يطلق على هذه الصينية اسم " صينية القلل " فهى كانت مخصصة فقط لهذا الغرض ، كما كانت هناك أيضًا حلقات معدنية يتم تثبيتها في الشبابيك والبلكونات من الخارج لتوضع بها هذه القلل حتى يبرد ماءها .

 

كانت الفتيات أيضًا تبدعن في صنع أغطية لهذه القلل ، أغطية مصنوعة يدويًا ومشغولة بالخيوط الملونة على الرغم من توافر أنواع أخرى مصنوعة من النحاس أو من الألمونيوم وقد صنعت خصيصًا لهذا الغرض ، إلا أن الابتكار كان منهجًا غالبًا يمر بلمساته المميزة على كل شيء موجود بالمنزل ليضفي عليه تأثيرًا جميلًا وذوقًا عاليًا رفيعًا

 

في أيام وليالي فصل الصيف الحارة كان الناس يتطلعون إلى الشرب من مياه هذه الأواني الفخارية ، لأنها توفر مياه شرب باردة دون ضرر ، فالخامة الطبيعية التي صنعت منها تنقي المياه من الشوائب ، وتمنحها رطوبة غير مبالغ فيها توفر لمن يشرب منها شعورًا كبيرًا بعذوبتها .

 

شاعت أيضًا في الماضي القريب فكرة انتشار الأزيرة الفخارية سواء داخل المنازل أو خارجها . كانت توضع على الطرق بقصد توفير المياه للمارة وكان أصحابها يواظبون على ملئها والحفاظ على نظافتها رغبة منهم في الحصول على الأجر والثواب من رب العباد .

 

كانت لنا جارة طيبة نضعها في مقام الجدة لكبر سنها ، كان منزلها ملاصق لمنزلنا وكانت تدعى " أم كامل " واسمها الأصلي هو " فضة " كانت تمتن جدًا لمن يناديها باسم " أم كامل" فهو ابنها الوحيد الذي أنجبته بعد طول انتظار ، كانت الحاجة فضة لديها قلة كبيرة الحجم نوعًا ما تقوم بوضعها على شباك حجرتها التي تطل على الشارع ، كانت امرأة حنونة إلى أقصى حد ، فهى تنسج من حنانها وتعلقها بالأطفال مكانًا رحبًا ليسعهم في مدخل بيتها ، ترحب بكل طفل قد انشغلت عنه أمه بأعمالها المنزلية وهى راضية سعيدة بذلك .

 

كانت أختي الصغرى من مريديها ومحبيها فتلك السيدة كانت تمتلك قلبًا حانيًا والجميع يعلم هذا عنها ، تجمعهم حولها لتسرد عليهم بعض القصص والحكايات التي حفظتها منذ طفولتها .

 

إذا أراد أحدهم أن يشرب وطلب هذا منها كانت تنهض على الفور وتحضر قلة الماء الخاصة بها وتحضر معها كوبًا فارغًا لتصب فيه بعضًا من مائها .

 

تمر ساعات النهار ويقترب موعد غروب الشمس فيعود الأطفال إلى منازلهم تباعًا ، حتى إذا ما انصرف الجميع قامت بإغلاق باب منزلها بعد أن قامت بمهمتها الاختيارية التي أحبتها وكأنها قد خلقت من أجلها .

 

وفجأة تستيقظ أختي من نومها وهى تطلب ماءً لتشرب ، فتقوم أمي رحمة الله عليها بفتح الثلاجة وتخرج منها زجاجة مياه ، تضع بعضًا منه في كوب من البلاستيك قد خصصته لها .

 

ترفض أختي رفضًا باتًا الشرب من هذا الماء قائلة : " لا .. أنا مش عايزة أشرب من الميه دي ، أنا عايزة أشرب من قلة أم كامل " تحاول أمي تهدئتها قائلة : " اشربي ياحبيتي دلوقتي من ده ، والصبح إن شاء الله ابقي اشربي من قلة أم كامل ، هى نايمة دلوقتي ومايصحش نصحيها "  لم تقتنع أختي بحديث أمي معها ، ولم تستجب لتوسلاتها .

 

 بكت الصغيرة كثيرًا وأيقظتنا جميعًا فما كان من أمي إلا أن انفعلت عليها ونهرتها ، ثم تركت كوب الماء بجانبها ، لعل عطشها يجبرها على التنازل عن عنادها ، فتخضع للشرب منه إذا ما تمكن العطش منها .

 

نامت أختي أخيرًا ، وفي الصباح وجدت أمي كوب الماء كما هو بجانبها فأشفقت عليها وقررت أن تبحث عن حل جذري لهذه المشكلة ، حل يسعد قلب الصغيرة العنيدة ويزيل الصداع المتكرر عن رأسها .

 

وفي لحظة مرور أمي من أمام بيت الجارة الطيبة وهى في طريقها إلى السوق كعادتها ، بادرت أم كامل بسؤالها عن سبب بكاء أختي بعد أن غزا سمعها في الليلة الماضية صوت بكائها ، ابتسمت أمي وقامت بسرد القصة عليها ، فإذا بها تقول : " والله زعلتيني وفيها إيه لو جيتي تصحيني وتخليها تشرب هو أنا ورايا الديوان يا بنتي " قدمت أمي الشكر والامتنان لها ، ثم استأذنتها وأكملت سيرها .

 

عادت أمي من السوق سريعًا على غير عاداتها  عادت وهى تحمل في يدها قلة صغيرة قامت بشرائها وإهدائها لأختي بعد أن عانقتها وطيبت خاطرها ، فرحت الصغيرة بتلك الهدية المتواضعة فرحًا كبيرًا بعد أن قامت أمي بغسلها وملئها بالماء ، ثم وضعت القلة في وعاء على شباكها ، كنا نراقب من بعيد نظراتها إليها ، وكأنها كائن تتحدث إليه ، ويتحدث إليها

 

ما زلنا نذكر هذه القصة حتى يومنا هذا ، وكلما تجمعنا أو جاءت أختي لزيارة أحدنا ننتظر لحظة طلبها للماء لنردد عليها قولها : " لا .. أنا عايزة أشرب من قلة أم كامل " لتضحك قائلة : " يمكن علشان الناس زمان كانوا طيبين كنا بنحب كل حاجة موجودة عندهم مهما كانت عادية أو بسيطة " ، لنؤكد على قولها ، ثم نترحم على روح أمنا الحبيبة ، وعلى روح الحاجة فضة الشهيرة " بأم كامل " .

Dr.Radwa
Egypt Air