الجمعة 17 مايو 2024

حقًا.. هناك بشر!

مقالات31-5-2023 | 12:44

حقًّا .. هناك بَشَرْ !!                                                                                                                                                                                           وما أدركوا.. حينما افتتح خطبته -صلى الله عليه وسلم- على جبل الرحمة في عرفات بعدما حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أيها الناس، اسمعوا قولي، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً، نعم أقول ما أدركوا أنه يودع الإنسانية؛ قد كانوا حوالي مائة ألفٍ أو يزيدون ركضوا لينالوا شرف الصحبة ويأخذوا عنه المناسك، ويعاود -صلى الله عليه وسلم- تذكيرهم بما للإنسانية من حقوقٍ "أيها الناس إن ربَّكم واحدٌ، وإن أباكم واحد، كلكم لآدمَ، وآدمُ من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي فضلٌ على عَجمي إلا بالتقوى، ألا هل بلغت، اللهم فاشهدْ" فما أحوجنا إلى هذه الإنسانية في أخلاقنا ومعاملاتنا وإبداعاتنا كي نواجه دعاوى التطرف وإشعال الصراع..!! إنها العولمة التي نجحتْ في تحويلنا إلى كائنات طفيلية مستقبلة ومستجيبة -دون وعيٍّ- لكل المثيرات والأفكار التي تحاصرنا من الضفة الأخرى ، وجعلت من أجيالنا نهْبًا ولقمة سائغة ..!!                                                                                                       ولا أعرف اتجاهاً شعرياً قديماً أو حديثاً احتفى بالإنسانية مثل "الأدب المهجري"، ورغم أن شعراءَ المهجر جلُّهم من المسيحيين؛ إلا أنهم يرون الإسلام بُعدا روحانيا وفكريا مهما في تكوينهم النفسي والعقلي فضلاً عن كونه رابطةً قوميةً ؛ لذا نراهم يذكرون كتابهم المقدَّس "الإنجيل" إلى جانب "القرآن الكريم" ومحمدا إلى جانب المسيح في تآلفٍ ومودةٍ. 

وتأمَّل إبداع كبير أدباء المهجرالذي علَّمهم السحر"جبران خليل جبران"فما ذكر في كتاباته المعبد إلا وذكر المسجد ، وما ذكر الهيكل إلا وذكر المحراب نابذاً الطائفية البغيضة ؛ ولا يفوتنا ما قال أميرالشعراء "أحمد شوقي"حينما احتفى باقتران ذكرى ميلاد المسيح والمولد النبوي الشريف :( عيد المسيح وعيد أحمد أقبلا**يتباريان وضاءةً وجمالا ) ؛ بل إننا نرى "أحمد شوقي" يجسِّد أعلى درجات التسامح الديني إذْ يقول : ( نُعلِّي تعاليم المسيح لأجلهم ** ويوقّرون لأجلنا الإســـلاما)!!                                                                                                                                          ونكتشف خصيصةً أخري في نزوع المهجريين إلى الإنسانية ألا وهي الحب الخالص ، والصفح حين الخطأ في حقهم  ؛ يقول الشاعر المهجري "زكي قنصل": ( أنا إن شكوتُ فدمعتي من جفنكم ** وإذا شدوتُ فصوتُكم قيثـاري )؛ ولا يمكننا إغفال"إيليَّا أبي ماضي"شاعر "الجداول" و"الخمائل" في هذا المضمار ؛ فله صولاتٌ وجولاتٌ بقصائده البديعة الداعية إلى الحب الإنساني والتحلِّي بآداب الاختلاف والاعتصام بمبدأ التسامح يقول : ( إني إذا نزل البلاءُ بصاحبي ** دافعت عنه بناجذي ومخلبي ) ، كما أن "ميخائيل نعيمة" له قصيدة رائعة ؛ تضج بالمعاني الإنسانية النابذة للحرب الداعية إلى الأخوَّة والتسامح ، وهي -كما وصف هذا اللون من الأدب الناقد الكبير الراحل "الدكتور محمد مندور"- من الشعر المهموس ، ذلك الأدب الخافت الصوت الذي يلج القلب مباشرةً ويستقر في أعماقه محوِّلاً سلوك الإنسان إلى سعْيٍّ حثيثٍ نحو معارج الإنسانية الحقَّة يقول"نعيمة": ( أخي إن ضجّ بعد الحرب غربيٌّ بأعماله ** وقدَّس ذكْرَ من ماتوا وعظَّم بطْش أبطاله )... في مواجهة هذا الصلف (فلا تهزجْ لمن سادوا ولا تشمتْ بمن دانا )فكلاهما خاسرٌ بسفْك الدماء الإنسانية التي أُريقتْ وهذه الأرواح التي أُزهقتْ، وفداحة الثمن ..! تجعلنا نفعل ما يأمرنا به"ميخائيل نعيمة":( بل اركعْ صامتاً مثلي بقلبٍ خاشعٍ دامٍ ... لنبكي حظَّ موتانا )..أجل أليست نفوساً خلقها الله عزَّ وجلَّ !! ؛ كما ورد في صحيح مسلم : ( أنَّ قَيْسَ بنَ سَعْدٍ، وَسَهْلَ بنَ حُنَيْفٍ، كَانَا بالقَادِسِيَّةِ فَمَرَّتْ بهِما جِنَازَةٌ فَقَامَا، فقِيلَ لهمَا: إنَّهَا مِن أَهْلِ الأرْضِ، فَقالَا: إنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ مَرَّتْ به جِنَازَةٌ، فَقَامَ فقِيلَ: إنَّه يَهُودِيٌّ، فَقالَ: أَليسَتْ نَفْسًا.)                                                                                                                                                               لنصل إلى محطتنا الأخيرة والشعر الأفريقي والشاعر "أليون بادارا كوليبالي" وقصيدته (هناك بشر ) من مجموعته الشعرية (شعاع شمس) ؛ ولعلك تلاحظ بساطة القصيدة في التعبير عن الاحتياج الإنساني لمن يشد الأزر ويداوي الجراح ، ويزيل الضعف ، ويشارك من حوله وجدانياً ، إنها الإنسانية في أنبل صورةٍ  هؤلاء النبلاء لا يهمهم البوح بأسمائهم ؛ فتواضعهم لا يحتاج دليلاً .... فإلى رائعة " كوليبالي" و ( هناك بشرْ ...!! )  
هناك بشر ... كلامهم بلسم لقلوبنا المتالّمة حين يصفعنا القدرليطلق ألسنتنا
هناك بشر ... تعيد ابتسامتهم الابتسامة للمرضى، للفقراء، للمحتاجين.
هناك بشر ... تعيد ابتسامتهم الابتسامة للذين يتألّمون في الضوضاء كما في الصمت.                                                                                                                         هناك بشر ... تعيد لنا أخوتهم قوّة سنوات الشباب.
هناك بشر جريئون أمام الصعاب..هادئون في الانتصار.. يثبّتون الذهن ويقوّون الروح.
هناك بشر نظرتهم عطاء،أمل، إيمان وحب، مشاركة وتضامن.
هناك بشر لا يقدرون على الفرح عندما يتألّم آخرون.
أيها البشر الذين تستبدلون الأمل البرّاق بالشقاء !!
لن أبوح باسمائكم ... وتواضعكم لن يُدنّس ..!!