بقلم: جمال عبدالناصر
كتب القائد الراحل جمال عبدالناصر هذا المقال عن خليفته “أنور السادات” وذلك فى مقدمة كتبها عبدالناصر لكتاب “صفحات مجهولة” الذى كتبه أنور السادات عن ثورة 23 يوليو فى نوفمبر 1954 م:
إن شخصية أنور السادات، لجديرة بالإعجاب، خليقة بالإطراء، لعبقريته العسكرية الممتازة، وشجاعته، ورباطة جأشه، وإخلاصه وتفانيه فى خدمة المثل العليا، إلى جانب قوة إرادته، وتنزهه من الغرض، ورقة عواطفه، وميله الغريزى للعدالة والإنصاف كل هذه الصفات جعلته أهلا للقيام بدور مهم فى التمهيد لثورة 23 يوليو 1952 م والسير بها قدما فى سبيل النجاح.
لقد استخدم أنور السادات هذه السجايا فى جميع أطوار حياته،كما أحسن استخدامها فى خدمة القضية الوطنية فنجده قد سجن فى شهر نوفمبر سنة 1942 م بأمر العدو المستعمر، ثم أعيد اعتقاله سنة 1944 لنشاطه الوطنى، ولكم تحمل من ألوان الحرمان والتعذيب، فلم تهن عزيمته، ولم تزعزع عقيدته لا ولم يفت ذلك فى عضده، بل ازداد رسوخا وإيمانا، ولا غرو، فعلى قدر أهل العزم تأتى العزائم، فكان له من سنوات سجنه الطويلة فرصة للتفكير، والتفكير مليا، حتى رجع بتمعنه وتأملاته إلى آلاف السنين الخوالى، وطالع ما كان خلالها عن مطامع العالم التى شخصت وتجمعت حول هذا البلد الطاهر، فظل الشعب المصرى الأبى الكريم رازحا تحت نير الاستعباد، ردحا طويلا من الزمان، متخلفا بذلك من تقدم سائر البلدان فما كاد يفر من معتقله، حتي صار رمزا حيا للمطالبة بالحرية، ومعبرا صادقا للشعور الجامح الذى سرى فى شعب وادى النيل أجمع، من البحر الأبيض المتوسط حتي أعالى خط الاستواء مطالبا بالتحرر من الظلم والاستعباد والطغيان.
ها هو ذا يكافح بهمة لا تعرف الكلل فى سبيل المثل العليا، فى الوقت الذى نرى فيه الجموع العالمية، تطالب أيضا بتحقيق العدالة الاجتماعية ولا جدوى فى إنكار مطالبها..
لقد عمل الضباط الأحرار جاهدين، من أجل إذكاء الحماسة فى القلوب التى ابتأست، وإشعال الجذوة فى النفوس التى اتقدت، حتى يستطيع الشعب الكريم، مجابهة عدوه اللدود الممثل فى ثلاثة “الملكية، والإقطاع والاستعمار”.
كان النظام الملكى الرجعى المنوط بأسرة أجنبية، حائلا دون تقدم البلاد فكان أول لزام علي الثورة، أن تهدمه تماما وتقضى عليه، لتفسح الطريق أمام نهضة الباد، ثم أصبح لزاما عليها بعد ذلك أن تقتلع جذور الفساد والمحسوبية والرشوة والرجعية والحزبية المغرضة البغيضة، حتى تطهر البلاد من الأدران، وأخيرا وليس آخرا كان لزاما علي الثورة أن تعبئ الشعور العام، وتدرب الجموع المتكتلة الحاقدة علي عدوها الغاصب، لمجابهة ذلك العدو بكل ثقة واطمئنان.. وقد كان.. وكم من مرة تأرجحت سلبية الثورة، فى ذلك اليم المتلاطم الأمواج إذ لم يكن من اليسير مقاومة قوى الانحال الهدامة، وما إليها من تقاعس وتهاون وخيانة.
كان الكفاح طويا مريرا، ولكن المثابرة لم تذهب سدى، فظلت السفينة ثابتة عاتية تتكسر الأمواج على دروعها القوية الواحدة تلو الأخرى، ومضت السفينة تشق طريقهاقدما فقامت مصر الحديثة، مصر الجمهورية الفتية.
والآن، وقد استرد الشعب عزته، واستعاد حريته، وأصبح يشعر بكرامته ويدرك حق الإدراك مصالحه العليا، المؤسسة على التحرر من الاستعمار والمساواة المدنية والسياسية، نجد أن الفوارق الاجتماعية التى كانت شاسعة البون، قد انهارت فاسحة الطريق أمام القيم الأخلاقية التى تقدمتها، وقد تضافرت فيها الجهود، وتوجهت بعزيمة لا تعرف الكلل إلى الأعمال الإنشائية.. فالشعار الصريح الواضح لعهدنا الجديد هو التعاون التام للعمل والإنتاج.
لقد تسلمت الثورة القيم الوطنية وديعة بن يديها، وستسير بالشعب المصرى قدما، في طريق الإنشاء والتعمير، المحاط بجو الهدوء والاستقرار، وستتقدم بالأمة فى سبيل الرقى والازدهار.
شاهدت مصر فى خال السنوات العشرين الأخيرة، أحداثا بدت لأول وهلة، متشعبة الأطراف متعذرة الفهم والإدراك، فإذا ما حققنا فيها النظر عن كثب، لراعنا فيها من خيوط مرتبطة بعضها ببعض، تقودنا لنتيجة واضحة، فروح السخط التى سادت الجيش من جراء فساد الحكم، والتألم المرير الذى شعر به المصريون إثر احتال أرض الوطن وعزوف المسئولين عن إجراء إصلاحات أساسية واجبة، وحرب فلسطين، إلى غير ذلك.. إذا ما اقتفينا أثر هذه الخيوط لتكشف أمامنا منطق واضح سليم، أدى بنا للنتيجة الحتمية التى حدثت، وجعلت ما كان يبدو غامضا فى بادئ الأمر واضحا جليا فى نهايته.
لقد حلل المؤلف فى كتابه الشخصيات والأحداث تحليا دقيقا، مما جعل الكتاب مرجعا قيما يعتد به، حاولت جاهدا أن أوضع مضمونه وأن ألخص فصوله المتعددة، فلم أجد خيرا من هذه الجملة المختصرة : “إنه ولا شك لمن خلاصة البواعث الخفية، والأسباب السيكولوجية” لثورتنا السلمية”.
وقف الكتاب قرب منتصف عام 1952 م، سنة التحرير والبعث ، التى سجلت إحداثا خطيرة لبلادنا، إذا ما استعدنا ذكراها، لرأينا عهدا بائدا تغرب شمسه وعهدا جديدا ناهضا تشرق أنواره.
شكراً للمؤلف فقد أتاح لنا أن نرى فى الحاضر المزدهر الخصيب، ما يبشر بالمستقبل الباسم الزاهر.
نوفمبر 1970 م