الثلاثاء 2 يوليو 2024

رجالنا طلعت حرب...!

24-9-2017 | 14:20

بقلم الأستاذ : فكرى أباظة

أرجو أن يعلم القراء أننى فى تعرضى لتحليل الشخصيات أحاول أن أبرز صورة “فنية” وصورة تاريخية صحيحة لهذا الصنف الكبير الشهير من الناس ليست مهمتى مهمة سرد محامد وفضائل وكفايات واستعدادات.

وإنما مهمتى مهمة دراسية بحتة تشمل الظواهر والبواطن معاً والمعروف والمجهول معاً .

والمتجلى والمتوارى معاً.. وقد ارتطمت أول ما ارتطمت بالنحاس باشا فى العدد الماضى وأرجو أن أكون وفقت فى “وزنه” بالميزان الصحيح واليوم تورطنى مجلة “الهال” وريطة أخرى فأرتطم بشخصية أخرى عاتية كأختها جبارة وهى شخصية “طلعت حرب” مارد المال فى مصر...

مدرسة قديمة

والرجل مهما قلتم عن نبوغه وعبقريته وعصريته فليس من حق العصر الجديد “موديل 1920 - 1937 م” أن يحتكره ويدعيه إنه من أبناء “المدرسة القديمة” المدرسة التى خرجت محمد عبده، وسعد زغلول والهلباوى وغيرهم وهؤلاء يمتازون بأن “نعومة الأظفار” و “نعومة التربية” - و “نعومة الحياة الأولى الأساسية” لم تلن عظامهم - ولم “تدلل”أذهانهم- ولم “تذب” طباعهم والحياة الخشنة الأولى هى خير أساس للجلد والصبر الطويل والمناعة فى العمل المضنى الشاق، المنهك للجسم والذهن معاً فمن يتساءل دهشا: كيف استطاع ويستطيع “طلعت حرب” أن يدير كل هذه الدنيا الاقتصادية الفادحة ؟ فهنا يجد الجواب...

دغرى

إذا أضفت إلى هذه المناعة والتحصين صفة أخرى تصورت كيف تدعم هذا الحصن فى بناءيه الخارجى والداخلى، وكيف استطاع أن يصمد للزمن ! هذه الصفة هى أنه “دغرى”أو “ ”Correct فقد احترف الرجل من زمن بعيد إدارة الأموال والأملاك والثروات وأعطى سلطة واسعة النطاق فى تدبير أمور موكليه والواثقن فيه فأجرى حكم الله وحكم الذمة والضمير وارتفع فوق الذروة العليا من سمعة “اليد البيضاء” و “الجيب النظيف” فحصل على “رأس مال” دونه كل رءوس الأموال وهو “السمعة الحسنة” ...!

فإذا علمت أن زملاءه فى هذا النوع من الاحتراف جرت تقاليدهم على استغلال مراكزهم، والخروج من الإدارة برأس مال مادى، عظم فى عينك الفرق بين الطرف الذى ثبت، والطرف الذى هوى وذرته الرياح...

ما من ثروة، أو ملك أو “وسية” أو “روكية” امتدت لها يد “طلعت حرب” إلا وامتدت لها البركة وامتدت فوق يده يد الله...

هذا “الرأس مال” هو الذى سرى فى القطر سريان الكهرباء والسحر حين بدأ مشروع بنك مصر فتجاوبت الأجواء بترديد النداء فأنشأ، وبنى وشيد واستفحل أمره وأمر مشروعاته حتى احتلت القطر من موانيه وثغوره على البحر الأبيض المتوسط إلى أقاصى الصعيد حتى الشال !...

الذين يتسرعون فيغريهم النعيم العاجل على النعيم الخالد الآجل يجب أن يأخذوا من هذه الفقرة درساً، وعلماً وفناً وعظة ..

قاموس

ويمتاز الرجل بصفة أخرى هى أنه “قاموس” واف من ألف مجلد للأسر المصرية، وأسرارها المالية وحالة أفرادها الشخصية والأدبية والمعنوية.

إذا فتحت حرف “الألف” تجد الأسرة المبتدئة بالحرف مرتبة منظمة بعقاراتها، وأموالها، وأملاكها وديونها، ورهونها، وحجوزها، وبيوعها وهكذا الحال تحت حرف “الباء والتاء” حتى حرف “الياء”... والقاموس المكون من ألف مجلد ليس مخطوطا فى ورق وليس مطبوعا فى مطبعة وليس مرصوصاً فى مكتبة للرجوع إليه وإنما هو مخطوط، ومطبوع ومرصوص فى مكان واحد ! هو ذاكرة “طلعت حرب” وهى منحة من منح الله، وفلتة من فلتات الطبيعة، ومعجزة من معجزات البشر، بل هى “قلم تحريات” واسع النطاق قلما يتهيأ لبنك من بنوك العالم بأسره...

هذه هى “الدعامة” القوية التى يستند إليها “رب المال والاقتصاد” فى هذا البلد، والتى جعلت خطواته على بصيرة وعلى حذر، والتى تفادى بها الوقوع فى الأخطاء وفى حفر الجهل بحقائق المستدينين والمتعاملن.

بروباجندست !

و “طلعت حرب” بروباجندست ورجل دعاية من الطبقة الأولى وهو شجاع فى هذا وجرىء ومقدام وهو يعلم تمام العلم أن “الإعان” في مصر بل فى كل العالم هو سند التجارة وسند الاقتصاد وهو لا يضن على هذا الباب من أبواب واجبه بوقته ولا بماله ولا بنفوذه وهو نهاز للفرص ذو ذوق سليم فى اختيار المناسبات وقنص الظروف وإطاق قنابل ومدافع “الدعاية” فى الوقت الملائم ويحار الإنسان المحلل فى كيف تهيأ لرجل من “المدرسة القديمة” أن يبرع فى هذا الضرب من ضروب الأساليب الحديثة ! فإذا ما علمت أن الرجل مطلع كثير القراءة زالت دهشتك وعلمت أنه علمى عملى، نظرى واقعى، مخضرم بين أساليب القرن التاسع عشر والقرن العشرين..

أديب واجتماعى ومحافظ ورجل دين قد لا يعرف الكثيرون أن “طلعت حرب” أديب وكاتب وباحث واجتماعى وله فى البحوث مؤلفات قديمة لا أدرى أين اختزنها ولماذا لا يعيد طبعها ونشرها وعنده كل الوسائل وأهمها فيما يرتبط بشخصيته رده على أحد أقطاب الفرنسيين بصدد الإسام، ورده على قاسم أمين ومن هذا وذاك تعلم أنه “رجل دين وإيمان وإسام” وأنه “رجل محافظ” يرعى تقاليد الأسرة المصرية القديمة كل الرعاية، وفى بعض تصرفاته الاقتصادية كان شديد التحفظ بصدد “النسائيات” وبصدد طفرة المرأة المصرية ومن شواهد “محافظته” أنه ثائر على اتيكيت المجتمعات الساهرة ثائر حتى علي بدل الاسموكنج والفراك إلا إذا اضطر اضطراراً، ثائر على الخمر والدخان، ثائر على كل ما يتورط فيه رجال العصر الحديث من “قنزحة” و “فرنجة” فما سمع أحد أنه أقام لأصدقائه العديدين من أجانب ونزلاء حفلة رقص وشراب، وما سمع أحد أنه أجرى الخيول فى السباق وأنشأ الاسطبلات كما يفعل رجال المال ...

عنيد .. ومستأثر !

يعانى المحلل الاجتماعى معاناة هائلة حين يتعرض لنقط “غامضة” في كبار الرجال.. فالشك أن “طلعت حرب” عنيد، شديد المراس متى كون اعتقاداً أو إحساساً فى شخص أو فى مشروع، أو فى حركة جديدة، فأنصحك باليأس كل اليأس من أن تحول فكرته، أو تخدش اعتقاده، أو تغير رأيه محال!

أسلم -لا جدلا وإنما بحق- إن الرجل لم يكون اعتقاده أو إحساسه عفواً واعتباطاً وتسرعا وإنما لابد أنه بحث، واستقصى وفكر وجمع الوقائع وأنضج الرأى فى “معمل” رأسه الكبير.

وإنما يبدو للناس ما لا يعرفه الناس وهو لا يفضى بأسباب ولا بحيثيات وإنما يكبر عليه أن يقدم حسابا عن رأيه الخاص فهو يحتجزه لنفسه وتظل “المظاهر” بارزة لا يعرف الناس سرها فيظنون أنه “عنيد” والسام ... والعجيب فى أمره أنه من كثرة أعماله وقلة أوقات فراغه وعدم انغماره فى مجتمعات الطبقة العليا ونواديها وسهراتها، لم يكون لآن “حاشية” شخصية تجارى ذكاءه وعلمه وعظمته أو ترتفع -حتى- إلى ربع طوله وعلوه آلا يدهشك أن تكون طبقة تفكيره وثقافته المكتسبة فى السماك، وطبقة “حاشيته الخاصة” لا تزال تزحف على الأرض ؟! كيف يجتمع الضدان، وكيف يجرى الحديث وكيف يدور السمر، وكيف تحدث المناقشات وكيف ترتطم الآراء وكيف تورد إليه وقائع الحياة “النهارية” المتسعة النطاق؟! كل ذلك لا يتصوره محلل ولا تستطيع إلا التسليم باستحالة التوفيق بين الضدين، وبن المتنافرين المتباينن..

وهكذا أثبت الاستقصاء النفسانى فى جميع أمم العالم أن للأقطاب والفطاحل والفحول غرائب وعجائب ومدهشات وناحية غير مفهومة فى زاوية غامضة من زوايا أمخاخهم الكبيرة وتعليل ذلك عندى أن العظيم الضخم الذى يمضى يومه الحافل بجلائل الأعمال لابد له من رياضة ذهنية فإذا لم يكن بطبيعته من عشاق “التنس” أو “الجولف” أو “الرقص” أو “القمار” كصاحبنا وجب عليه أن يريح ذهنه المتكدس المزدحم، وأن “يتريض” رياضة فكرية وشخصية متواضعة ضعيفة لا تتعب ذهنه، ولا تسترعى تفكيره، ولا تكلف ذهنه ولا لسانه عناء وإجهادا...

وهكذا يلذ لرجلنا العظيم الجبار أن يهون على نفسه وأن يستمع فى حلقته الخاصة لمنطق فقير، وسمر فقير، وأحاديث فقيرة، وبيانات ومعلومات فقيرة، وكم فى فقر المنطق والمعلومات والأخبار الشخصية والعامة من لذة ومن فائدة للمستغل المستثمر القوى الذى يخرج من التراب تبراً، ومن أعماق المناجم ذهباً وماساً...

ومن أهم نواحى “طلعت حرب” التحريات ، و“الاستخبارات” أليست جزءاً من عمله بالذات كرجل يجس نبض الحركة المصرية كلها ؟؟ وقد لا يصلح لهذه العملية كبار معاونيه ومساعديه إما لعدم انغمارهم فى أوساط مصادر الأخبار وإما لبعدهم عن الدنيا المتكلمة و “المدردشة” الثرثارة .

وقد لا يجد أصلح من هذا النبع الفقير لترديد الأخبار والأقوال ولو ترديد الببغاء ولست أجزم تماما كيف بقدر الرجل القادر المتصرف أخبار هذا الطراز من الناس ولست أجزم تماما بأنه “لا يدخل فى حسابه” فقد تكون صحيحة جيدة الاختيار وقد تكون على خاف ذلك وإنما هناك دائماً “الضمانة الواقية” وهو أنه رجل “فراز” يحتجز البضاعة المتينة لنفسه، ويلقى بالبضاعة الرخصية فى الهواء...

وقد قلنا فى العنوان أيضاً إنه رجل “مستأثر” يكلبش بيديه على أعمال الأسهم والسندات والحوالات والكمبيالات- والقطن والبذرة- وزمزم والنيل وكوثر- والكتان والحرير- وحروف الطباعة- والصدف- والسمك- والغزل والنسيج... إلى آخر ما ورد وما يرد وما سيرد فى تاريخه الحى العجيب “يكلبش” بيديه على الإجمال والتفصيل وعلى الجملة والقطاعى فلا يترك شاردة ولا واردة إلا ودرسها وأصدر بصددها أمراً..

هذا كثير ! ..

وكثير فوق احتمال البشر !..

ولعل المسئولية العظمي التي يحتملها على عاتقه هى التي جرته جراً إلى هذا الارتطام ولكن مطلوب إلى “طلعت حرب” أن يربى بجواره شخصيات وأن يغذيهم بحمل المسئولية وبحرية التصرف و “بالاستقلال الذاتى” فى العمل وأخرج من الحساب طبعاً صديقيه مدحت يكن وفؤاد سلطان فإننا نتكلم عن الطبقة الثانية لا الطبقة الأولى الشريكة والمساهمة ثم من حق الوطن على “طلعت حرب” أن يقول له: ارحم نفسك نوعاً ما

...

إنه خلق بالفعل- وأستغفر الله فإنى أقصد الخلق الإعدادى لا الخلق فى حد ذاته- ... نعم خلق بالفعل طائفة من الشباب وأغرقها مسئوليات وأنضجها بسرعة البرق ولكنه بعد أن رأى ثمرة تربيته يرجع فيطويها ويتغلغل فى عملها التفصيلى من فرط الحرص وشدة تقديره للمسئولية ويعود فيحمل نفسه كل الأعباء...

بعيد النظر يأسر ويغزو

أما عن بعد نظره فلست أحتاج إلى كلام طويل فهذه القاع والحصون والقصور والميادين ما رسخت، وشمخت، واتسعت، إلا بفضل بعد نظره ولعل هناك شيئاً من “إلهام الله” صان ويصون هذه المنشآت وهذه الدول والممالك الصناعية والتجارية...

ولكن بعد النظر يتجلى فى بحث جديد دقيق يتلخص فى أنه: آسر وغاز... ما من عظيم مصرى ولا سياسى مصرى ولا موظف مصري ولا قطب مصرى إلا وقد ربطه “طلعت حرب” برباط المعاملة المادية مع بنكه وشركاته، والرباط المادى بآثاره ونتائجه وملحقاته رباط متين قوى نافذ المفعول !

بهذا الشكل سيطر “طلعت حرب” سيطرة كاملة على قوى الدولة الشعبية والحكومية فأمن نزوات الأغراض، وشهوات المشاغبة، وهواجس الشيطان، وضمن لمنشآته أن تنادى النداء العادل المعقول فيلبى ولاة الأمور النداء !...

مناطقه الشرقية والإسلامية يلاحظ المحللون الاجتماعيون فى السنين الأخيرة تطوراً “لطلعت حرب” خارج الحدود فى الشام والعراق والحجاز وباد العرب والإسام...

وهو جد متحمس فى خطته الجديدة بل لعله أغدق على مشروعاته هناك إغداقا يفوق الذى توقعه المتوقعون... قد يكون مرجع هذا نزعة شرقية واسعة النطاق كمنت فى نفس الرجل من زمن بعيد وآن أوان التجلى بها..

وقد يكون لإسام الرجل الصحيح دخل فى الموضوع ففرض “الإسامية” على نفسه فرضا أسوة بفروض الله.. وقد يكون هذا التمهيد لشىء مختمر مختبئ فى ذهنه الكبير لا يكشف مثلى من حافرى ومنقبى أعماق الرجال..

ولكن الذى لا شك فيه با نظر إلى كل هذه الافتراضات أن الرجل فى تسلله إلى خارج الحدود قد أدى واجباً عالمياً شرقياً هو أجدر الواجبات عندى بالإكبار والإجلال...

كفى...

هذه الشخصية تجرى بقلمى جرياً سريعاً وجرياً متعبا وشاقاً ولو استرسلت معها لقطعت أشواطها أنفاسى...

كفى أنه أعجوبة من أعاجيب الدهر الحاضر والسلام !

فبراير 1937