الثلاثاء 14 مايو 2024

يا ما في السطوح مظاليم

مقالات13-6-2023 | 12:21

وها هى أشعة الشمس قد انكسرت قليلًا بعد أن امتصت أرض الشارع معظم حرارتها في أغلب ساعات النهار وها هم الجيران قد بدأوا رحلتهم اليومية في رش الأرض بالمياه للتخفيف مما فعلته بهم الشمس منذ لحظة شروقها وحتى اقتراب موعد غروبها ، وها هم الأطفال يخرجون لشراء المشروبات المثلجة والآيس كريم وكأن عيدًا قد حل بهم ، فعندما يقترب موسم الامتحانات كانت الأسر تفرض على أغلب الأبناء أوامرها بضرورة الاجتهاد والاستذكار وفي شارعنا العديد من طلاب المراحل الثانوية وكذلك طلاب الجامعات ، أما هؤلاء الأطفال الصغار فقد أنهوا دراستهم لهذا العام وظهرت نتائجهم ونالوا بهذا حريتهم الكاملة في اللعب والمرح وهذا حقهم ، كنت بالطبع ممن ينتظرون الامتحان بالمرحلة الثانوية ، لم تكن منازلنا مكيفة ولم تكن لدينا رفاهية شراء تلك الأجهزة في زمننا ، كنا نقدس القناعة تقديسًا ونفرح بأقل شيء نمتلكه أو يتوفر لدينا ولا أدري إلى الآن السبب الدقيق لوجود هذا الشعور بداخلنا ، كنا نجبر خواطرنا بأنفسنا طائعين للأهل وراضين بنعمة الحياة في هدوء واستقرار .

 

وها هو الهواء قد أصبح باردًا إلى حد ما بعد أن بدأت النسمات العليلة تهز أغصان الأشجار وكلما زاد تمايلها كلما أرسلت لنا إشارات من التفاؤل في قرب اعتدال الجو والمزيد من الفرص لبدء المذاكرة منذ تلك الساعة وحتى أولى ساعات النهار ، كانت هذه حياتنا ، المسئولية الملقاة على عاتقنا لم تكن تزعجنا بل كان منا من يحب المذاكرة ويعتبرها كالقراءة الحرة فهى تمنح صاحبها رصيد كبير من الثقافة والمعرفة ، هكذا كنا في السابق ، أقصى شيء كان يشغلنا هو مشاهدة التليفزيون لفترة قصيرة بين الحين والآخر بموافقة من الأهل ومع اقتراب أيام الامتحانات كنا نتنازل عن مشاهدته عن قناعة منا بذلك ودون إجبار .

 

بعضنا كان يفضل المذاكرة في مكان آخر غير غرفته ولم تكن ظروف حياتنا تسمح لنا بالخروج من المنزل فالحل كان في الصعود إلى سطح المنزل بما أننا كنا نسكن في الدور الأرضي وطالما قد هدأت حرارة الشمس فسيكون هذا هو الحل الأمثل بالنسبة لي ، وها أنا أجمع كتبي التي سأذاكر فيها وأحمل زجاجة بها ماء مثلج وطبق به بعض من فاكهة الصيف المتوفرة لدينا ، أصعد درجات السلم بحرص شديد حتى لا تسقط هذه الأشياء من يدي ، وهناك في الأعلى توجد أريكة متواضعة ومنضدة تبرع بهما أحد أعمامي ووضعهما في السطح ومعهما بعض من الكراسي الخشبية فهو يسكن في الطابق الأخير وكثيرًا ما كان يصعد إلى السطح.

 

أسابق في كل مرة ضوء النهار لأذاكر فيه قبل أن يغادر ويحل الظلام أشعر أن السباق يساعدني في سرعة الاستيعاب فما هى إلا ساعتان على الأكثر وستغرب الشمس ويخيم الظلام على المكان ، أتناول مقدارًا من الماء بين اللحظة والأخرى وأتناول من طبقي بعضًا من الفاكهة وكأني امتلك العالم ، حقًا ما أجمل الشعور بالرضا ، وبعد مرور فترة تركت الكتاب من يدي قليلًا حين سمعت صوتًا من خلفي ينادي فألتفت نحوه ، إنه ابن الجيران الذي يسكن في الشارع المجاور لشارعنا نافذة حجرته تطل على سطح منزلنا ولكنها غالبًا ما تكون مغلقة فماذا حدث اليوم ؟! ، إنه يقف في صمت تام ويحدق بي كأنه تمثال فتعجبت من ذلك وقلت ماذا يريد مني هذا الشاب غريب الأطوار، كنت أعرف عنه خجله الشديد فهو يسكن في منزل مقابل لمنزل جدتي لأمي  .

 

قمت بحمل الأشياء التي كانت معي وقلت في نفسي إن هذا الحال لن يمكنني من الاستمرار في مذاكرتي وعندما هممت بالنزول وجدت أخاه واقفًا إلى جواره فتعجبت أكثر وقلت ما الذي حدث ليفعلا هذا معي وحدثت نفسي قائلة : " الله يسامحك أنت وأخوك أديكم هاتخلوني أنزل وأتحبس من تاني في أوضتي " وفجأة صعد عمي فاختفيا عن الأنظار تمامًا وتواريا خلف هذا الشباك وأغلقاه بقوة فنظر عمي إلى وكأنه ربط بين ما حدث منهم وما حدث مني ، لعله فسر المشهد في نفسه على هذا النحو وقال : " أكيد كانوا بيتكلموا معاها ولما حسوا بوجودي قفلوا شباكهم وهى أخدت حاجتها علشان تنزل ماهو مفيش تفسير تاني غير كده " وما خمنته كان في محله تمامًا أحسست هذا حين بدأ عمي يحاضرني عن سن المراهقة وما يحدث فيه من لهو وعبث وبأن كل هذا ما هو إلا وهم كبير تعيش الفتيات فيه وأخذ يحذرني وأنا أقاطعه وأسأله عن سبب توجيه هذا الكلام إلى فيقول : " لا دي مجرد نصيحة جت على بالي " استأذنت بالنزول  وأنا أقول في نفسي : " يا ريتني ما طلعت من أصله " مؤنبة بذلك نفسي  .

 

وفي اليوم التالي حضرت جدتي لأمي إلى منزلنا وعندما رأيتها تملكني الخوف للحظات وربطت كل الخيوط ببعضها وأنا أراها تتحدث مع أمي بصوت خفيض ولكن وجهها قد بدت عليه علامات الفرح ، فتنفست الصعداء حينها وقلت لابد أن الأمر لا يخصني ، وجاء رد أمي مفسرًا لحضور جدتي المفاجيء عندما ردت عليها بثبات : " لا طبعًا جواز إيه دلوقتي دي لسه صغيرة ولازم تكمل تعليمها " وهنا اتضحت الصورة وتم فك رموز غموض الأمس وأحداثه الغريبة بعد أن أعلنت جدتي عن زيارة والدة الشاب لها وطلبها يدي لابنها ، وصعدت على الفور إلى عمي لأخبره بتفاصيل الموقف الذي قام بترجمته بالأمس على هوى نفسه وكاد بذلك أن يظلمني.

Dr.Radwa
Egypt Air