السبت 23 نوفمبر 2024

مقالات

صرخة حجر!


  • 16-6-2023 | 19:50

أمل زيادة

طباعة
  • أمل زيادة،

أصعب شيء قد يمر به الإنسان بعد وفاة والدته هو حرمانه قسرًا من آخر لحظات ولو كانت مؤلمة مع من يحب، شعوره أنه لن يستطيع التواصل معها مرة أخرى روحيا؟!

قد يقول البعض وما العائق بيننا وبين أرواح من نحب، أجيبكم أننا ارتبطنا بذكريات عديدة مع من نحب حتى عندما وصلوا لمرقدهم الأخير، تكونت ذكرى لحظية مع كل تفاصيل المكان الذي نزوره لأول مرة بحكم كونه يضم أغلى ما نملك.. أحباءنا.

لذا نرتبط ارتباطا وثيقا ونتعلق بالمكان رغم قسوة الحقيقة ،وهي أن من بداخلها أصبح ترابًا بمرور الزمن سيصبح مجرد رماد، رغم ذلك تظل للمكان إجلال ورابط قوي يزداد متانة بمرور الوقت وباستضافة المزيد ممن نحب. 

لا أتعجب من منشورات الاستهجان والتآسي على هدم المقابر لأني أعلم كيف يفكرون، أشعر بما يحسون!!

منذ سنوات اقترح أحدهم أن يقوم بتجديد مدافن العائلة ويتوجب عليه الحصول على موافقة جماعية، كان ردي عليه ألا يحرمنا من آخر مشهد ارتبط بذاكرتنا وهو يضم من أحب، احترم رأينا وتوقف التجديد، ربما لأنه لم تكن هناك ضرورة للتجديد من الأساس.

بعد جائحة كورونا توفي أحد شباب العائلة ودفن بالمقبرة، قام والده بعملية تجديد للمكان بالكامل وليس المكان المخصص بالدفن فقط قام بتجليد المقبرة بعيونها الستة بالرخام، إضاءة كاملة، تندة للوقاية من قيظ الشمس وأمطار الشتاء، ومراوح ضخمة للترفيه عن الزائرين، ونباتات كثيرة تحمل  لقب عائلتنا، لوحة رخامية فخمة تحمل لقب العائلة، وبوابة حديد كبيرة ومكتبة إسلامية تضم كتبا دينية وأدعية ومصاحف، وأصبح دائم الإقامة بالقرب من المقبرة موزعًا هاتفه على كل زائر طالبًا منه مهاتفته ليسبقهم، ليفتح البوابة سامحاً لهم بزيارة من يحبون، يصفه الناس بالجنون كونه جهز المكان وكأنه يعد بيتا كي يتزوج به، أراه مصدوما عقله لم يعي بعد ما أصابه، رغم ذلك تركه الجميع يفعل ما يريح قلبه الضعيف الذي لم يتحمل صدمة فراق ابنه الشاب.

قابلنا لأول مرة أخبرني بوجه باسم ابني هنا  واصطحبنا للمكان الذي دفن به، نبرة صوته وهو يقول ابني هنا لوهلة ظننت أنه حيًا ينتظرنا بالداخل وأنه سيستقبلنا!!

قال جملته وكأن ولده مقيم بفندق ما ونحن على وشك التعارف، عقله يرفض تقبل فكرة موت أحب الناس إلى قلبه؟! ابتسمت وأثنيت على ما فعل وداخلي أدعو له بالصبر والجلد.

لهذه للمقابر مكانة خاصة في نفوسنا، أشعر تماما بألم أصحاب المقابر التي صدر بحقها قرار إزالة، بعيدًا عن القيمة التاريخية للمكان وبما به من رفات علماء الفقه والأدب، أتعامل مع الأمر بشكل عاطفي نوعا ما.

رغم ذلك راقني تمامًا  اقتراح الأستاذ والمفكر الكبير مصطفى الفقي بأن ننشى «مقبرة للخالدين» تضم رفات  كل رموزنا ممن أثروا فينا بحروفهم وعلمهم، كل من ترك أثرًا ينير لنا الطريق للمستقبل.

أما عن بقية المقابر مادام هناك ضرورة ماسة للإزالة ومادام ليس هناك استثناءات أو محاباة، فليتم النقل بأسلوب آدمي وبتكريم تام، أما عن صرخة حجر التاريخ، أرى أنه ينبغي التروي والتعامل بحكمة مع تلك الأضرحة ذات التاريخ العريق.

يجب أن يتم هدم تلك التحف الفنية الغنية بالطراز المعماري والتاريخي المميز لتلك الحقب التاريخية، تحت إشراف خبراء الآثار،  فحجارة وأبواب هذه الأضرحة قادرة على جلب كنوز لمصر لعشرات السنوات.

هناك من يتمنى أن يكون لديه ربع ما لدينا من ثروات مهدرة ومهملة، هناك من يختلق حضارة وتاريخًا لا وجود له،  أما نحن فلا نحتاج لصناعة شيء لأنه ببساطة مصر جاءت ثم جاء التاريخ بعدها.

بكل الحب أقر وأعترف أنني آسفة يا حبيبتي لأننا نتسرع في اتخاذ أي قرار خاص بالهدم، أما فيما يتعلق بالغد والمستقبل نضع العديد والعديد من العقبات، قطعا سيأتي يوم ونمحو كلمة آسف حبيبتي من قاموس حياتنا.

 

الاكثر قراءة