الثلاثاء 24 سبتمبر 2024

بالصور: «حارة الساقين».. مهنة أغرقتها المياه

26-9-2017 | 20:42

كتبت- أماني محمد

جاء إنشاء شركة المياه وآلات الضخ والأنابيب التي وزعت المياه في القاهرة خلال عام 1865، لتقضي تدريجيًا على مهنة كانت من أشهر المهن في المحروسة، ألا وهي مهنة السقا والتي ازدهرت في مصر في القرن الثامن عشر والتاسع عشر وقبل التطور الحضاري بإيصال المياه إلي البيوت والمباني، وكان يعمل بها ما يقدر بنحو 3 آلاف و876 شخصًا عام 1870، وفقًا لكتاب "إحصاءات عن مصر".

والسقا هو الشخص المسئول عن نقل المياه من الخزانات أو الأنهار إلي المساجد والمدارس والمنازل والأسبلة لري ظمأ العامة، الذي لم يتبق منها سوى اسم على لافتة داخل حارة بحي عابدين.

الحارة تفقد بريقها

خاضت«الهلال اليوم» جولة داخل تلك الحارة البسيطة للتعرف على كواليس وأسرار امتهانها مهنة السقا، وهل ما زالت تحتفظ بأي شيء من هذا التراث؟.

عندما تطأ قدمك شارعها الرئيسي قلب حي عابدين العريق تنتبه للافتة مصنوعة من المعدن معلقة على قطعة خراسانية مدون عليها "حارة السقايين"، فهي  لا تختلف كثيرًا عن مثيلاتها إلا أنها تحمل بين جدرانها حكايات من زمن فات، تلك الحارة والشارع يحملان نفس الاسم ليحفظا وجود مهنة لم يعد يبقى منها سوى اسمها، والتي سجلها الأدب وكتب التاريخ والتراث الشعبي في الأمثال وتغنت بها قديمًا، فالمطربة شريفة فاضل غنت باسمها واحدة من أشهر أغنياتها.

بين شارعي بورسعيد ومحمد فريد، تمتد حارة السقايين ببيوتها وحكاياتها التي يحفظها كبارها ويحكونها لأبنائهم ليتوارث الصغار جيلا بعد جيل قصة المكان الذي إليه ينتمون.

لم تشهد الحارة تغيرات كبيرة على مدى العقود الماضية إلا شيئًا واحدًا وهو اختفاء "السقايين" الذين كانوا يقطنون فيها، فلم يعد بالحارة أثر لأصحاب تلك المهنة سوى اسم تحمله لافتات معدنية، وبقايا حكايات محفورة في ذاكرة أهالي تلك الحارة.

تبدو الحارة اليوم كزقاق صغير يتفرع من أحد شوارع الناصرية وعلى مقربة من سوق "الاثنين" الشهير في بقعة تتوسط بين اثنين من أعرق أحياء القاهرة السيدة زينب وعابدين إلا أنها تتبع الأخير إداريًا، تسير الحياة بها، فها هي أم ياسر، بائعة الخضروات، تتوسط المكان الذي اعتادت أن تأتي إليه منذ 30 عامًا من مقر إقامتها في حي المنيب، وتلك الأسرة التي تضع لافتة لأحد من ذويهم فارق الحياة.

تغيير الملامح

أمام منزلها القديم، الذي شهد مولدها وطفولتها، جلست أم خالد، ابنة عائلة "أبو طبل" تقص حكاية البيت العتيق الذي تحول إلى مسجد وألحق به عيادة طبية خدمية لأهل المنطقة، وعلى نغمات تتر نهاية المسلسل الشهير "لن أعيش في جلباب أبي" تتذكر طفولتها فهي المولودة منذ ما يقرب من سبعين عاما قضتهم في تلك الحارة.

تقول أم خالد:" كانت قديما مكان لبيع المياه داخل "قِرَبْ" جلدية يقطنه سقاة المياه ويتردد عليه طوال اليوم آخرون لذلك حمل الشارع اسمهم"، فهي لا تزال تتذكر مشهد توافدهم تباعا على الحارة والآبار المنتشرة بها والتي كان منزلها القديم يضم أحد الآبار قديما فيحملون منه المياه إلى المنازل المجاورة، حتى شفطوا المياه منه وردموه وعقب تهالك المنزل ثم  جددوه ليصبح مسجدا يحمل اسم "محمد أبو طبل".

وتعرف أن المنطقة كلها كانت عبارة عن مجاري مائية نيلية لم تراها في صغرها لكن والدها وأجدادها أخبروهم بذلك، وكانت تنتشر بها آبار المياه العذبة، وتسمع أن سوق الاثنين القريب منهم كان عبارة عن قنطرة تحمل اسم "قنطرة سنقر"، لكن كل ذلك لم تشهد منه سوى الآبار التي ظلت موجودة حتى السبعينيات من القرن الماضي.

وفي العقد السابع، اختفت الآبار والسقاة حسب روايتها وبدأت تتغير معالم الحارة رويدا رويدا، بدءًا من دخول المياه إلى المنازل عبر مواسير وتقنيات حديثة، وهدم المنازل القديمة واحدًا تلو الآخر وتوسع الشارع قليلا عن ذي قبل، وتشير أم خالد إلى الحارة وبيوتها كان أجمل قديما معمارها وتصميماتها أحلى لكن لم يعد من القديم سوى بيت واحد تحول إلى كوم من التراب بعد إهمال ورثته له.

"الناس كانت غلابة يحملون القرب والفناطيس فوق ظهورهم ويملؤون المياه من منزلنا" تحكي ما شاهدته، مضيفة أن المكان كان يشبه البيوت الريفية بعاداته وتقاليده والتي منها عادة تبخير البيوت لكي يأتي لها الرزق والسكان ويمنع عنه الحسد، لكن الأمر اختلف تمام على مدار العقود الماضية لتصبح حاليا شارعًا عاديًا لا يعرف عن سقاية الماء سوى الاسم.

كفر الشيخ ريحان سابقًا

كانت سقاية الماء مهنة منتشرة في العصور القديمة ليس في مصر وحدها بل في المجتمع العربي، فكان السقاء هو شخص يحمل الماء من خزانات أو آبار أو مجاري النيل في قرب مصنوعة من جلد الماعز إلى البيوت والمساجد وكانت مهنة رائجة طوال القرون الماضية لكنها أخذت في الخفوت مع منتصف القرن العشرين.

سجلهم الأدب في رواية يوسف السباعي "السقا مات" والتي صدرت عام 1952 وتحولت فيما بعد إلى فيلم سينمائي، وكذلك جاء ذكرهم في كتاب وصف مصر، والذي يوضح أن حارة السقايين كانت قديما تسمى بـ"كفر الشيخ ريحان" وهو ما تحول فيما بعد إلى شارع شهير قريب من عابدين وتبدل اسم الحارة إلى اسمها الحالي.

وعلى النقيض من أم خالد، فإن فايزة لويس، صاحبة الـ65 عاما، تؤكد أن وجود السقايين انتهى من الحارة في صغرها فلم تراهم أو تذكرهم، قائلة "قديما كان بها آبار وكانوا يأتون ليملؤوا المياه منذ عقود قبلنا ويحملونها إلى البيوت، لكن هذه الآبار كانت قبل حكم الملك فاروق من قديم الأزل وبنيت الآن وتحولت كلها إلى منازل".

أما رأفت شوقي، صاحب ورشة نجارة، فلا يعرف سبب تسميتها ولا يتذكر السقايين أو آبار المياه، فقط يرثي حال الحارة وما آلت إليه بعد إغلاق عدد كبير من ورش النجارة والبويات خلال الثمانية سنوات الماضية، قائلًا: "خلال السنوات الماضية تغيرت الحارة للأسوأ فلم يعد بها محلات أو ورش جميعها أُغلقت بسبب ركود حركة البيع والشراء.

حكاوي 60 عامًا

لكن جاءت إجابة الحاج محمد إبراهيم قاطعة بأنه حين أتى من بلدته في محافظة الغربية قبل أكثر من 60 سنة تقريبا وتحديدا في العام 1957، قائلا "كان المكان محل إقامة السقايين وكذلك محل ترددهم فكانوا يملئون القرب الجلدية من صنبور عمومي يشبه ذلك الموجود في محطات المطافئ ويبيعونها للأهالي بقرش واحد والاختلاف في السعر بسبب اختلاف المكان"، ويكمل "كنا نشتري مياه القربة بقرش صاغ وملاليم، وكانت وتكفي حاجة البيت ليوم وظلوا حتى عام 1965 فاختفوا بعد دخول المياه إلى البيوت".

ويضيف أن المكان كان بالأساس مجرى مائي فكان شارع بورسعيد -الخليج المصري سابقا- أحد فروع النيل وكان يمتد من فُم الخليج عند سور مجرى العيون حتى مسطرد ليصب في ترعة الإسماعيلية وذلك قبل أكثر من 150 سنة، وحارة السقايين كانت مليئة بآبار المياه أيضا.

ويتابع:" أساسي من الغربية وجئت إلى هنا والناس كانت حلوة، والدنيا رخيصة، لا نهتم بسماع الأخبار ولا يوجد حتى راديو، كان عند الباشاوات، والدنيا كانت هادئة ونشبه الأسرة الواحدة نكمل بعض"، ويتذكر إبراهيم الماضي وأسعار الماضي فكان "رطل اللحمة بـ3 صاغ، وبعدها الكيلو الذي يزن 2 وربع رطل أحلى لحم بـ12 قرش بلدي".

وأمام محله الصغير لبيع الأدوات المنزلية يحكي كيف بدأ نشاطه التجاري "سنة 1958 حصلت على دبلوم تجارة وكان وقتها له "شنة ورنة"، ولم تعجبني وظيفة براتب 3.25 جنيهات في شركة النصر لصناعة السيارات، ورفضت الوظيفة الثابتة وفضلت التجارة لأن حسنتها مخفية وبها خير".