الإثنين 6 مايو 2024

فقه الحوار وعمران الديار


د محمود خليل

مقالات10-7-2023 | 10:22

د محمود خليل

● الأوجب والألزم فى زماننا هذا، أن نعيد النداء للتداع والتساند والتعاضد  للمجموع الوطنى العام ، بكل ثقله وفاعليته وقوته، ليجمعنا نداء واحد "الحوار وعمران الديار"
● لابد أن يكون الحوار فاتحاً لكل مغلق، ومثمرا بكل مغدق، ومتحركا إلى الأمام، وصاعدا إلى الأعلى، ونازلا إلى الأعمق من أجل تحقيق الهدف الأسمى والأمل المنشود
● المحاورة والمجاذبة،  والمخاطبة والمجادلة، إذا ابتغى بها صراحة ووضوحا، وإذا رجى من ورائها حقيقة وبينة، كانت سياسة عقلية ماتعة، وكانت سياحة معلوماتية نافعة 
لقد وردت مادة الحوار فى القرآن الكريم أربع مراتد ، بينما وردت مادة الجدال  31 مرة على اتفاق واختلاف بينهما، فقد يكون الجدال حوارا، على قوله تعالى: (  قد سمع الله قول التى تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما) ( المجادلة)١.
 والحوار هو: الرجوع عن الشىء، وإلى الشىء .
والحوار من الحَوْر (بفتح الحاء وسكون ألواو)  أى الرجوع إلى الشىء وتبادل الرأى حوله 
قال القرطبى: (والله يسمع تحاوركما)  أى مراجعتكم  في الكلام ٠٠ومنه قول الله عز وجل: (إنه ظن ألن يحور) ( الانشقاق ١٤ ). أى يرجع إلى ربه.
 ومن معاني المحاورة الجواب و المجاوبة، قال لبيد: وما المرء إلا كالشهاب وضوئه يحور رمادا بعد إذ هو ساطع (يحور  أى يتحول ). 
أما المجادلة فهى حوار علي سبيل المغالبة، والانتصار للرأى ولو بالباطل، فى الأغلب الأعم٠٠ يقال : جَدَل الرجل: إذا قتله.
والحوار غالبا ما يأتي بين متماثلين  فى محاورة مفتوحة، وتبادل لوجهات نظر متسقة، تقوم بينها كفاءة مشتركة 
لكن الجدال غالبا ما يهدف إلى تغليب رأى على رأى، و دعمه ولو بالباطل، والتمحل له ولو بالتربص واللدد، متعززا على ذلك ولو بالقوة.
ولكن غير صحيح بالكلية صرف معنى الجدال إلى المحاورة بالسوء، من القول أو النية أو الفعل، كما سبقت الإشارة إليه من صدر سورة المجادلة.
وما وردت كلمة الحوار على خاطرى،  إلا وتذكرت ذلك النذير المخيف الذى أطلقه فى عقد التسعينيات الكاتب الكبير (محمد جلال كشك)  فى كتابه الفاصل: (الحوار أو خراب الديار)  الصادر عام ١٩٩٣م.
لكنى أصخت السمع إلى النذير،  وأعرضت عن التهديد التابع له، إذ كان الأولى أن يكون النداء الداعى إلى الخير، وبشير السلام ٠٠أولى ثم أولى
 ومن ثم ٠٠فإن الأوجب والأ لزم, فى زماننا هذا، أن نعيد النداء للتداعى والتساند والتعاضد  للمجموع الوطنى العام، بكل ثقله وفاعليته وقوته ، ليجمعنا نداء واحد٠٠ (الحوار وعمران الديار).
 حتى وإن كان الهدف من وراء ذلك هو السهر والحمى  ٠٠
 ولنتبادل جميعا رسالة وعى مشترك حول قول الله عز وجل: ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن، فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم، وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم ) (النحل 135 ) 
و بالمراجعة المنصفة فى الجدال،  والموازنة فى المخاطبة ، ٠٠ ينتج الحوار والجدال ثمرا لا ضررا،  وخيرا لا شررا 
فما أجمل المحاورة عندما ندخل إليها ونحن فرقاء، ونخرج منها ونحن شركاء، ٠٠والعكس بالعكس صحيح، كمن قالوا في شأنه قديما٠٠ من محاوراته المفسدة، ومجادلاته المفندة.
 
أتانا ماله فينا عدو   وفارقنا وليس له حبيب 
فالمحاورة والمجاذبة، والمخاطبة والمجادلة، إذا ابتغى بها صراحة ووضوحا، وإذا رجى من ورائها حقيقة وبينة، كانت سياسة عقلية ماتعة، وكانت سياحة معلوماتية نافعة، وسباحة فكرية مشروعة.
 يقول ابن عباس : والله إنى لأسمع بالغيث يصيب أرضا فأحمد الله لأهلها، ولعلى لا أرعى بها سائمة إلى يوم القيامة وأنى لا أسمع بالحاكم يعدل بين رعيته فأحمد الله إليه، ولعلى لا أخاصم بين يديه إلى يوم القيامة 
وأنى لأمر بالآية من كتاب الله تعالى،  فيفتح الله على فيها ما يفتح، فأحمد الله لذلك، وأتمنى أن لو فتح على عباده مثلما فتح على.
 هذا هو الخير العام الذى تنشده النفس السوية، من أجل الصالح العام، بأن تتسامى على همومها وشجونها، وخاصة أمرها لتقدم ٠٠ما هو أولى, ثم ما هو أولى ٠٠ فإنه لا يسأم مؤمن من دعاء الخير حتى يكون منتهاه الجنة ٠٠كما ورد فى الحديث الصحيح 
وما أجمل أن يكون المحاور والمناور ، طالبا  لإظهار ذلك الخير على يديه، أو على يدى خصمه أو طرفه الآخر ٠٠
روى النسائي من صحيح الحديث :   ما مجادلة أحدكم فى الحق، يكون له فى الدنيا، بأشد من مجادلة  المؤمنين لربهم فى الآخرة، فى إخوانهم الذين دخلو النار (رواه النسائى فى كتاب الإيمان (ص 112 )
وما أقبح الجدال، وما أمر ثمرته، إذا كان مراءً بالباطل، لمجرد دفع الخصم، وقصد إفساد قوله، وإبطال حجته. 
وما أفسد الثمرة أيضا ط، إذا ربح المحاور موقفه، وخسر قلب صاحبه، وانتهى من حواره وهو يتلمظ متشدقا ٠٠تزكية لنفسه, وتعلية لها بالباطل، ونفخا لها بالزور٠٠ تركته وقد (حار جوابا) أو جادلته حتى (جَدلْتُه) أى قتلته.
 فالحوار، والمحاورة، والجدال والمجادلة،  ما لم تكن راحاهما دائرة على أرضية من حسن القصد، ووضوح الرؤية، وتحديد الإطار، واعتماد المرجعية ، ٠٠فلن يرجى من ورائهما أدنى خير ،  ولا أقل ثمرة ٠٠لا قليلة ولا كثيرة. 
و الحوار والمجادلة الصحيحة الصحية، خصوبة الله خصومة، و تناصح لا تناطح، ومناقشة لا مناوشة. 
والحوار زيارات ميدانية للعقول والأفكار، وسياحات فكرية للرؤى والتوجهات، وفحص ودرس للخبرات والمعارف، وتجوال براح فى أرض براح ٠٠شريطة أن يكون مصاناًومأموناً، وخالصا وصاعدا ووطنيا، لا حزبيا ضيقا مغلقا ٠٠بأن تكون له المرتبة الأعلى فى الأولوية، وعليه الأمل الأعلى فى الرجاء.
 ولزيادة الإصابة والاستجابة٠٠ فإن نموذج الحوار  الأقوم، يقوم على الأسس الآتية:
١-الإدارة المرنة ذات الكفاءة العالية 
٢- البعد عن الترصد والتصيد
 ٣- عدم المشروطية المسبقة، أو الأحادية المغلقة
 ٤- تحديد المسارات الهادفة
٥- وضع الأطر الضابطة
 ٦- الجدولة الزمنية الصاعدة الملزمة 
٧- تفضيل تفعيل المنتج الحوارى واقعيا 
٨- وضع مخارج جديدة للمخرجات المختلف عليها
 ٩- الاستعانة بذوى القدرات والمواهب الخاصة 
١٠-  بسط الأفق الحوارى لكل الرؤى والمسارات 
11 - الاتفاق المبدئى على المرجعية
 12 - إثراء المآلات وفتح آفاق جديدة لحوارات أوسع وأعمق
 13 - تحديد حوارات متخصصة للقضايا النوعية 
وثمة أسس أخرى شافعة ورافعة للحوار الناجح البناء،  بعيدا عن أجواء الإملاء والاستعلاء، أو القهر والجبر،  أو المخادعة والمراوغة، أو الفردانية والأحادية، أو اللف والدوران. 
ولا شك أن آدابا عامة،  تعتبر بمثابة القواعد التأسيسية لأي حوار،  حتى لو كان شخصيا، فضلا عن أن يكون حوارا عاما أو قوميا.
ويعتبرذلك بمثابة خط استواء لمفهوم الوطنية الصادقة، ومن تلك القواعد المعينة على النجاح الصادق لحوار صادق:
١-وضوح الهدف
٢- اثنين الشفافية والصدق
 ٣-المكاشفة والمواجهة
 ٤- تكافؤ الفرص 
٥- تحرير المواقف وتحديد الرؤى
٦-  الاحترام والثقة المتبادل 
٧- تحديد المرجعية والمآلات 
٨-  تقدير المسؤولية العامة والخاصة
 ٩- البدء بالمتفق عليه
 يقول الإمام أبو حنيفة ( إمام أهل الرأى): علمنا هذا رأى، وهو أحسن ما قدرنا عليه،  فمن جاءنا بأحسن منه فهو أولى بالصواب.
 ويقول أيضا هذه الإمام الأعظم:  رأينا صواب يحتمل الخطأ ورأى غيرنا خطأ يحتمل الصواب
 والحوار الحر المفتوح ، يفتح أبواب العقول، ونوافذ الأفئدة ٠٠٠ وقد أمر الله به أنبياءه من أولى العزم، مثل  ( هارون وموسى ) فى شأن فرعون ومخاطبته بالهدى والنور٠٠ قال تعالى: ( إذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى ( (طه 44 )
وفى المتفق عليه من حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم : ( الكلمة الطيبة صدقة ) خاصة إذا دارت تلك الحوارات والمجادلات تحت  المكاشفة والمناصفة، مثلما تأتى مسارات ومدارات الحوارات ذات المسؤولية العليا، كحوارات إدارة الأزمات، التى تدور على قواعد هندسية، وأسس رياضية ومعلوماتية واضحة، لا تحابى ولا تجامل ، ٠٠وهى تراهن على عنصر الوقت واقتصاديات الجهد، و رسالية المشهد.
ومما تعلمنا من الدروس الأولى في حقلنا الإعلامى.. أننا نتصل لنؤثر ونؤثر بهدف.
 وهذا الموقف الاتصالى حق مكفول لطرفى الحوار،  بعيدا عن المراوغات الهلامية، أو الترهات الكلامية، أو النزهات الشكلية، أو المهارشات المعرفية، أو الجدل العقيم
 فالحوار٠٠ شخصيا كان أم عاما٠٠ إقليميا كان أم وطنيا. 
إنما هو التفعيل الأمثل لهذه النظرة ٠٠ فى محيط الدائرة من الخبرات المشتركة والاتصالات المتماسكة٠٠ ذات الكعب الدوار الذي يبدأ من حيث انتهى، وينتهى من حيث بدأ، فكل جدل حوار، وليس كل حوار جدلا. 
ولا بد أن يكون الحوار فاتحاً لكل مغلق، ومثمرا بكل مغدق٠٠ ومتحركا إلى الأمام، وصاعدا إلى الأعلى، ونازلا إلى الأعمق ،٠٠ من أجل تحقيق الهدف الأسمى والأمل المنشود. 
يقول أبو حيان التوحيدى فى (البصائر والذخائر ) عن شيخه القاضى المروزورى:  إنه كان إذا رأى تراجع المتكلمين فى مسائلهم٠٠ أى (حواراتهم ) وثباتهم على مذاهبهم بعد طول جدلهم٠٠ أن
 ومهمهٍ دليلُه مطوّح ُ
يذهب فيه القوم حتى يصلحوا 
ثم يظلون كأن لم يبرحوا
 كأنما أمسوا بحيث أصبحوا 
(البصائر والذخائر 21.1 / 60 )٠
 ولا شك أن الحوار والجدال، والنقاش والمشاورة، توجبه المصالح العامة، والمقاربة الوطنية العليا، والقضايا القومية الكبرى، والتراتيب الإدارية المستقر ، مابين  الدولة بين الدولة وأنساقها المجتمعية، و ذوات  هيئاتها وأفرادها، فى وجوب تقديم العام على الخاص، و الأهم على المهم.
 وسأضرب مثالا واحدا ختاميا ربما يستغربه القارئ العزيز٠٠ فضلا عن أن ينكره أو يستنكره.
 كان العلامة محمد رشيد رضا صاحب المنار، وولى أفكار مدرسة الإمام محمد عبده، فى التجديد والتسديد، قد توافق على قاعدة للتعامل مع المختلفين من أهل القبلة، وسماها (القاعدة الذهبية): والتى تقول (نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه).
 وهذه القاعدة تعززها فى وجه بعض المعترضين قاعدة أصولية جامعة تقول  لاإنكار فى المختلف.
 وفى أى شأن يستدعى المناقشة والمجادلة أو المشاورة، فإن الحضور خير من الغياب
وليس بعد العين أين..

Dr.Randa
Egypt Air