ليس دفاعاً عن الزعيم جمال عبدالناصر.. ولا هجوماً على الدبلوماسى الشهير عمرو موسى.. ولكن إظهارا للحق.. ودعماً للحقائق .. نحاول أن نتوقف أمام بعض «المغالطات» .. التى تضمنتها مذكرات عمرو موسى .. والصادرة فى كتاب بعنوان «كتابيه» .. ورغم تهافت وضعف تلك المغالطات .. إلا أن صدورها عن عمرو موسى.. يجعل التوقف أمامها بالرصد والتحليل ضرورة حتمية.. فقد عمل الرجل مندوباً لمصر فى الأمم المتحدة.. ووزيراً للخارجية .. وأمينا عاماً للجامعة العربية .. بما يعنى أن كلامه يجب أن يكون دقيقاً ومنضبطاً وحقيقياً.. وليس مجرد انتقام شخص .. ناتج عن بعض المشاكل الشخصية والعائلية..
أولا: ذكر عمرو موسى فى فقرة مفككة وكلامها متناقض.. أن عبدالناصر بعد أن أصيب بالسكر .. كان يأخذ بعض طعامه من سويسرا.. ومن المؤكد أن هذا الكلام مختلق.. ولو كان حقيقياً ما صمتت عنه المخابرات الأمريكية CiA.. والتى قالت فى إحدى تقاريرها عن عبدالناصر «مشكلتنا مع ناصر أنه بلا رذيلة» . ولم يكن الموساد الصهيونى يصمت هو الآخر عن تلك المعلومة .. وبالتأكيد كانت النظم العربية الرجعية التى ناوأت عبدالناصر كثيراً .. ستستغل هذه المعلومة المهمة.. ورغم كل هذا يأتى عمرو موسى وبعد سبعة وأربعين عاما من رحيل عبدالناصر .. ليكتب كلاماً متناقضا .. فالأغذية التى كان يأخذها الزعيم من سويسرا «بسيطة» .. ورغم ذلك كان رجلاً ضخما هو من يتولى أمر أخذها من سويسرا.. وكأن إرسالها فى الحقيبة الدبلوماسية أمر صعب أو مستحيل.. كما أن هذا الرجل الضخم يقول لعمرو موسى إن رئيسنا «عبدالناصر» يأكل الفول والجبن مثل الشعب..!! وكل الذين اقتربوا من عبدالناصر أكدوا على أن طعامه الرئيسى كان «الخبز الأسمر والجبن القريش».
ثانياً: يضع عمرو موسى مسئولية ما حدث فى الخامس من يونيه ١٩٦٧.. على كاهل الزعيم جمال عبدالناصر.. ويصف تصرفاته بأنها وصلت إلى حد «المقامرة» .. ولو كان هذا الكلام لكاتب أو محلل أو دبلوماسى عادى ما توقفنا أمامه.. ولكن عمرو موسى كان يعمل وقتها فى مكتب وزير الخارجية المحترم محمود رياض.. بما يعنى أنه كان على علم بكل ملابسات ووثائق الأزمة.. تلك الأزمة التى انطلقت من مؤامرة كونية شارك فيها الأعداء «الكيان الصهيونى» .. والخصوم «أمريكا» .. والأصدقاء «الاتحاد السوفييتى» .. والأشقاء «سوريا والمملكة العربية السعودية» .. والمنظمات الدولية «الأمم المتحدة» .. وقد ظهر الكثير من وثائق هذه المؤامرة وأصبح متاحاً أمام الباحثين والإعلاميين.. فمثلا يلوم عمرو موسى على عبدالناصر لأنه طلب سحب القوات الدولية.. وموقعه الدبلوماسى فى ذلك الوقت جعله بكل تأكيد يعلم أن مصر طلبت سحب جزء صغير من القوات الدولية.. ولكن الأمم المتحدة ردت بخيارين إما سحب كل القوات .. وإما بقاء كل القوات.. وبالطبع كان الأمريكان خلف هذا الخيار الصعب.
ثالثاً: يؤكد عمرو موسى على أن ما حدث فى يونيه ١٩٦٧ كان هزيمة كاملة.. ولم يكن مجرد «نكسة» .. ومن خبراته السياسية والدبلوماسية كان لابد أن يعلم أن الهزيمة تعنى فرض إرادة المنتصر على المهزوم .. كما حدث فى الحربين العالميتين الأول والثانية.. فهل استطاع الصهاينة فرض إرادتهم على مصر.. بكل تأكيد لم يحدث هذا .. بدليل أن مصر قامت من النكسة إلى المقاومة فى أقل من ٢٥ يوماً.. وذلك من خلال معركة رأس العش فى الأول من يوليو ١٩٦٧ .. والتى كانت باكورة أعمال حرب الاستنزاف... التى استمرت أكثر من ألف يوم.. وشهدت آلاف العمليات ضد العدو الصهيونى.
رابعاً: يشكك السيد عمرو موسى فى النهضة الصناعية التى حدثت فى الستينات.. بحجة أن الصابون «ما بيرغيش» .. والبشكير «ماينشفش» .. والغريب أن نهضة مصر الصناعية فى ذلك الوقت .. كانت واضحة للأعمى والبصير.. للعدو والصديق .. ولكن السيد عمرو موسى نسى موتور الطائرة «القاهرة».. ومصنع المراجل البخارية.. وقلعة الحديد والصلب.. وأكثر من ألف مصنع عملاق.. وتذكر فقط «الصابونة»..!!
خامساً: يؤكد السيد عمرو موسى أن قانون الإصلاح الزراعى.. أدى إلى تخفيض الإنتاجية الزراعية.. بعد تفتيت الرقعة الزراعية.. وهذا كلام عار تماماً من الصحة.. لأن الإنتاجية الزراعية لم تنخفض إلا بعد إلغاء الدورة الزراعية.. تلك الدورة التى كانت تلزم «أبو قيراط واحد» .. أن يزرع مثل «أبو ألف فدان» .. وإلغاء الدورة الزراعية هو الذى أدى إلى انهيار زراعة القطن فى مصر .. فبعد أن كنا نزرع ٢.٤ مليون فدان .. أصبحنا نزرع فقط ١٥٠ ألف فدان.
سادساً: أشاد السيد عمرو موسى بانتصار أكتوبر.. وهو انتصار عظيم بكل المقاييس.. ولكن الرجل نسى أو تناسى حرب الاستنزاف والتى لولاها ما كان أكتوبر .. والأهم أن كل الأعمدة التى قام عليها انتصار أكتوبر .. تم إنجازها خلال الاستنزاف «مدفع المياه.. حائط الصواريخ - الإغارة على النقاط الحصينة - الخلطة التى أغلقت أنابيب النابالم - خطة الحرب وقد تم تجريبها فى الإغارة على النقطة الحصينة فى لسان بور توفيق يوليو ١٩٦٩.
سابعاً: من أخطر ما جاء فى مذكرات عمرو موسى.. تأكيده على أن حرب أكتوبر قد تمت طبقا لسيناريو «سري» بين السادات وكيسنجر، حيث قال وبالنص «هل كان الوزير الزيات وزير الخارجية محمد حسن الزيات» يعلم بموعد حرب أكتوبر قبل سفره إلى نيويورك؟.. وهل كان فى الصورة بالكامل من الاتصالات «السرية» بين السادات وكيسنجر؟.. أنا أعتقد أن الوزير لم يكن يعلم بموعد بدء القتال.. كما أنه لم يكن فى الصورة بالكامل من الاتصالات السرية.
ثانياً: جاء عمرو موسى بالسفير محمد إسماعيل ليكتب شهادة يؤكد فيها بأن موسى كان أول من فكر فى ضرورة عمل مفاوضات مباشرة مع الكيان الصهيونى.. ثم أشاد بتحركات السادات فى هذا الاتجاه.. والتى أدت إلى كامب ديفيد واتفاقية السلام - والتى جاءت أقل كثيراً من العطاء العسكرى للجندى المصرى.. وكان على موسى من خلال موقعة فى مكتب وزير الخارجية محمود رياض.. أن يذكر المبادرتين الأمريكتين.. التى تم تقديمهما لمصر فى نوفمبر ١٩٦٨، مارس ١٩٦٩.. وتنصان على عودة سيناء كاملة السيادة لمصر .. مقابل علاقات طبيعية مع الكيان الصهيونى.. ولكن عبدالناصر رفض المبادرتين مؤكداً على ضرورة حل القضية العربية بكل أبعادها.
تاسعاً: لم يفاجئنى السيد عمرو موسى بانتقاده أو انقلابه على الزعيم جمال عبدالناصر.. وهو ابن التنظيم الطليعى.. وذلك لأن انقلابه وانتقاده لصاحب الفضل عليه حسنى مبارك كان أشد قسوة.. فمبارك اختاره مندوبا لمصر فى الأمم المتحدة.. ثم وزيراً للخارجية .. ثم أمينا عاماً للجامعة العربية.. ومع بداية أحداث يناير ٢٠١١ راح الرجل يكيل الانتقاد لمبارك ونظامه.. وكأنه لم يكن جزءًا منه .. كما لم يتورع السيد موسى عن اتهام صديقه أحمد أبو الغيط بأنه «مخبر» .. حيث قال عن حفاء فريق الخارجية معه أثناء القمة العربية.. بعد احتلال العراق للكويت «لاحظت أن فريق الخارجية لم يتعامل معى بنفس حماسة وترحيب فريق الرئاسة» كان عمرو ضمن فريق الرئاسة» .. فيما عدا أحمد أبو الغيط الذى ظل على تواصل معى.. ربما كى يعرف الأخبار..!!
عاشراً: أعتقد جازماً أن تلك «التلويشات» التى طالت الزعيم جمال عبدالناصر فى مذكرات عمرو موسى - تنبع من «انتقام شخصى» .. حيث كان حفيد عبدالناصر «ابن منى وأشرف مروان» .. متزوجا من ابنة السيد عمرو موسى.. وحدث الطلاق بينهما.. ومن حق الرجل أن يغضب لابنته ولكن ليس من حقه أن يحول هذا الغضب إلى معول يحاول به هدم هرم عبدالناصر.
حادى عشر: فى شهر مارس ٢٠١١ كتبت مقالاً فى جريدة الدستور.. عن قصة حكاها الكاتب الراحل أنيس منصور.. فى جلسة عامة كنت أحد شهودها.. حيث قال إن السفير الإسرائيلى فى مصر كان يرسل له ولعمرو موسى صناديق الخمر.. ويقول لهم «جين فوربيس» .. أى الخمر مقابل السلام.. وعندما نشرت المقال لم يكذبه أحد وكان كل أطراف الحكاية على قيد الحياة.. وهذه الحكاية مجرد درس بسيط للسيد عمرو موسى لعله يتعظ.
وفى النهاية فقد استلهم عمرو موسى الآية التاسعة عشرة من سورة الحاقة «فأما من أوتى كتابه بيمنه فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه» ليضع اسم كتابه «كتابيه» .. وأعتقد أن الآية الخامسة والعشرين من نفس السورة «وأما من أوتى كتابه بشماله فيقول يا ليتنى لم أوت كتابيه» .. هى الأكثر اتساقاً مع المغالطات الكثيرة التى جاءت فى هذا الكتاب.