كأنه كان يهتف بما يدور في صدري وصدرك إذا ما أوقفتْنا الحياة في موقفٍ لابد أن تختار فيه ما بين أن تتجرَّع ماء الحياة ممزوجاً بالذل وبين أن تحتسي العز في كأس الحنظل ..!! هكذا هتف بهذا المعنى "عنترة بن شداد"( لا تسقني ماء الحياة بذلةٍ ** بل فاسقني بالعز كأس الحنظل) ؛ ليأتي بلغةٍ رشيقةٍ سهلةٍ ليس فيها مداراةٌ أو تعقيدٌ ، صحيحٌ أنه أعقبه بتعليلٍ يضجُّ جمالاً ودلالةً على الحكمة من اختياره (ماء الحياة بذلة كجهنمٍ * *وجهنمٌ بالعز أطيب منزل)، إنها النفس السوية التي تأبى الهوان ، وتجعل الحياة إذا اقترن بها الهوان لاتقل عذابا عن جهنم ، لكن العز يجعل من جهنم المنزل الأطيب ولا يَخْفَى عليك أن الشاعر بعيدٌ كل البعد عن المدلول الديني للفظة "جهنم" التي نوقن أنها (ساءت مستقرا ومقاما)..!! ولم يجد الشاعر العربي الجاهلي غضاضةً في تهديد قومه بالانعزال عنهم ، والتصريح بقراره الصادم في الخروج من جوارهم ، فهذا "الشنفرى" في قصيدته "لاميَّة العرب"المشهورة تعلو صرخته في مطلع اللامية (أقيموا بني أمي صدور مطيكم * * فإني إلى قومٍ سواكم لأمْيَل) في لغةٍ شعريةٍ آسرةٍ ، وقصيدةٍ لم تلتزم البناء التقليدي للقصيدة الجاهلية : من ذكْر الديار والوقوف بالأطلال والتغزُّل في محاسن المحبوبة ..!! كأن هذا القرار الصادم لايحتاج لغةً دبلوماسيةً أو تمهيداً نفسياً ، فالنفس الأبية تعاف الذل وترفض الضيم (وفي الأرض منأى للكريم من الأذى * * وفيها لمن رام القِلى متحوَْل) ؛ بل وجد في رفقة الحيوان ما يغنيه عن جوار قومه ؛ فيقول (وَلي دونَكُم أَهلَونَ سيدٌ عَمَلَّسٌ * *وَأَرقَطُ زُهلولٌ وَعَرفاءُ جَيأَلُ) ؛ أي : ولي غيركم رفقاء في السفر من (سيد عملَّس) أي الخبيث من الذئاب ، و(أرقط زهلول) أي النمر الأملس وقيل الحية ، و(عرفاء جيأل) أي الضبع طويل العرف ، والمقصود أنه اعتاد السفر، وتكرر منه قَطْعُ المهامِهِ حتى ألفتْه وحوشها فصارت له بمثابة الأهل فلا يؤذيه الرحيل ، ولا يشق عليه السفر..!!
ونجد هذا المعنى يتكرر عند الشاعر الجاهلي المقدام "سويد بن أبي كاهل اليشكري" المخضرم -إذ عمر إلى ما بعد سنة ستين من الهجرة- يشكو ضيق البلاد بحيث لايرى فيه متسعا ولا يأمل الاستقرار فيها ، (كيف باستقرار حرٍّ ساخطٍ * *ببلادٍ ليس فيها مُتّسع) ..!! إنه -وياللعجب- يراها ضيقةً وهي تمتد في عصر بني أمية من شبه جزيرة أيبريا (أسبانيا والبرتغال) حتى أواسط آسيا ، أترى هذا "اليشكري" يلمِّح إلى ذلك الصراع الدائر بين العلويين والأمويين وما صحبه من قيامهم بمطاردة من استبان ولاؤه لآل البيت ...جائز!! ، وأيضا شكا أبو تمام ذلك الإحساس القاتل ، ورأى أن قرار الرحيل عن بلاد تقيِّد اللسان وتقفل القلب لارجعة فيه (وأصرف وجهي عن بلاد غدا بها * * لساني معقولاً وقلبي مقفلا) ؛ ليأتي "المتنبي"مدفوعاً إلى السفر والمغامرة فراراً مما يراه ذلا وخنوعاً فيقول : (فاطلب العزّ في لظى ودع الذلّ * * ولو كان في جنان الخلود) ولا يمكن صرْف لفظتي ( لظى ، جنان ) عما تثيرانه من دلالات دينية ؛ بل يعترف اعترافا صادما لا يستسيغه الكثيرون ؛ إذْ لايجد في قلبه أدنى حنين لهذه الأوطان إذ لم تحقق له ما يصبو إليه (غنيٌّ عن الأوطان لا يستفزني * * إلى بلد سافرتُ عنه إياب) ... فهل كان هذا الشعور باللاوطن دافعه الشديد إلى أن يرى العزة في قضاء العمر على متن فرسه ، ولا يرى رفقةً تملأعينه في المجالسة والمؤانسة فيقول :(أعزّ مكانٍ في الدنى سرْجُ سابحٍ * * وخيرُ جليسٍ في الزمان كتاب).
ولعلي أجد نفسي مدفوعا إذ يطفو على الذهن سؤالٌ يطرق رأسي بشدة ... هل مصطلح الوطن كما نعرفه هو ذاته الذي يتحدث عنه هؤلاء الشعراء المنادون بالاغتراب ؟!! إن الشاعر الجاهلي كان شديد الانتماء إلى نفسه أولا ثم إلى قبيلته ثانيا ، وحياته القائمة عل الترحال بحثاً عن الماء والكلأ لم تترك له مجالاً للارتباط بالأرض ، وكذلك الحال بالنسبة لما بعد الإسلام حيث ساح العرب في شتى بقاع الأرض وامتزجوا بكل الأمم مؤثرين ومتأثرين بهذي الشعوب ثقافةً وسلوكاً ؛ ولذلك يرون الهجرة في أحد معانيها العميقة نوع من إعادة الخلق والإبداع ، إذ تتجدَّد وتتحرَّر من كل ما يعْلَق بك من ”طول مقام " وتنصهر فيك ثقافاتٌ عديدةٌ بعيداً عن حياةٍ راكدةٍ انتقدها أبو تمام:
وطولُ مقامِ المرءِ في الحي مخلقٌ * * لديباجتيهِ .... فاغتربْ تتجددِ
فإني رأيْتُ الشَّمسَ .. زيدتْ مَحَبَّة * *إلى النَّاس أَن ليْسَتْ عليهمْ بِسرْمَدِ
ولذلك لم يجد العرب صعوبة في التكيُّف والاستقرار في مجتمعاتهم الجديدة ، لكن شعور العربي بالشوق إلى وطنه والفخر بمصريته مثلا أو بعراقيته أي بالانتماء إلى قُطْرِه العربي أثناء اغترابه ذلك أمرٌ لم ينشأ إلا حديثا جدا ... هذا الشعور الجارف تجاه الأوطان حينما يغترب الإنسان وكيف عبر الشعراء عن ذلك العشق حال وجودهم في غربتهم فذلك مقالنا القادم لكم كل التحية.