الإثنين 29 ابريل 2024

قصر رأس التين وتراجيديا أسرة محمد على


أحمد هلال

مقالات26-7-2023 | 22:03

أحمد هلال

تمر علينا هذه الأيام ذكرى ثورة يوليو 1952 وما تبعها من إلغاء الملكية وإعلان الجمهورية، وقد  كان قدر "قصر رأس التين" ان يولد في قلب البحر وحيدا وتدور بداخله مفاوضات واتفاقيات تخص الأيام الأولى لتلك الثورة وأحداث أخرى فاصلة غيرت مسار تاريخ مصر الحديث، فمن القصر تم عزل ورحل ثلاثة حكام الخديوي إسماعيل، عباس حلمي الثاني والملك فاروق فقد مروا جميعاً من عتبة بوابته الأثرية ذات الستة أعمدة متجهين إلى رصيفه البحري وحرس الشرف الملكي مصطف على الجانبين لوداعهم، كما توفي بداخله "محمد على باشا" و"سعيد باشا" وأقيمت تحت قبته الأنيقة الأفراح والليالي الملاح الملكية، أما قاعة عرشه التي شهدت أول التقاط صورة فوتوغرافية في افريقيا، وأيضا تشغيل جهاز التليفون لأول مرة في مصر، فهي دائما ما تكتب فيها نهايات تراجيدية تستدعي التأمل والعظة.

 

 1- حكاية القصر بدأت عندما داعبت الإسكندرية خيال "محمد على" فدخلت قلبه وعقله، فأعاد بناءها على الطراز الاوروبي بعد اهمال دام مئات السنين لتكون وجهة تجارية وحربية فأقام حصنا واستراحة ملاصقة للميناء الغربي الذي يعد أهم إنجازاته، ثم تحول الحصن إلى قصر بديع الموقع والتصميم ومقر للحكم وظلَ ظليل يقصده صَيفاً هربا من طقس القاهرة.

2- وعلى إثر انتصار الجيش المصري في "موقعة نصيبين" توسع نفوذ "الباشا" أكثر من اللازم؛ مما احدث خللا في توازن القوى الدولية، فاستغلت بريطانيا العظمى الموقف وحاصر أسطولها الحربي الإسكندرية وقام بتهديدها؛ ودارت داخل القصر كل اللقاءات مع وكلاء الدول المتحالفة مع بريطانيا ضد "عزيز مصر" وهم روسيا والنمسا ومعهم مندوب السلطان العثماني "رفعت بك" وبعد مفاوضات عسيرة وشد وجذب، يضطر الباشا في النهاية للتوقيع على معاهدة لندن 1840 ليكون له حكم مصر ومن بعده ابناؤه، وهنا َتطوى حقبة تاريخية داخل القصر مفعمة بالطموح والإنجازات ؛لتفتح اخرى مأساوية مليئة بالخيانة والغدر، وتدور الأيام و يصاب محمد على بالزهايمر فيحدد "أبراهيم باشا "اقامته في رأس التين ليتحول إلى سجن يعيش فيه اخر ايامه !وتشهد قاعاته صراخه ونوبات خرفه وحديثه مع نفسه مسترجعا ذكريات حكمه، حتى وافته المنية ونقل جثمانه الى القلعة في القاهرة عن طريق ترعة المحمودية وهناك أقيمت له جنازة بسيطة!

3- وللمفارقة أن يتوفى "القائد إبراهيم باشا" بمرض السل قبل أبيه بشهور، فيتولى الحكم "عباس حلمي" ابن طوسون وبعد حكم دام سنين يتم قتله في ظروف غامضة، فيأتي من بعده عمه "سعيد باشا "وكان لقصر رأس التين حضور بارز في تنصيبه بقاعته الكبرى، وفاته أيضا بداخله بعد صراع مع المرض، فتم دفنه بجوار (مسجد النبي دنيال)

وجاء من بعده أخوه "الخديوي إسماعيل" وقد أحب رأس التين حُبًا جَمًا وأضاف اليه قاعة فريدة التصميم على الطراز القوطي وصنع "باخرة المحروسة" ليتجول بها حول العالم، وأقام فيه حفل استقبال أسطوري للسلطان "العثماني عبد العزيز" فنال منه مرسوما سلطانيا يخول له توريث حكم مصر لأكبر أبنائه، ثم تم عزل "ولى النعم "من الحكم وخرج مقهورا محصورا من القصر وصعد يخت المحروسة في رحلة ذهاب الى ايطاليا بلا رجعة، وتم تعيين ابنه الخديوي توفيق بدلا منه.

 

4- وفي أيام عصيبة تموج المحروسة بأحداث الثورة العُرابية ومذبحة الإسكندرية وجع في قلب مصر والانجليز يقذفون المدينة بالمدافع وشوارعها متأججة وعلى صفيح ساخن، تهزم الثورة ويستقبل "الخديوي توفيق" داخل قصر رأس التين قائد البحرية البريطانية "بوشامب سيمور" كصديق ويتحالف معه ضد المصريين ويصدر في 19 سبتمبر مرسوما بحل جيش عرابي وتسريح جندها.

 

5- وتمضي العهود ومازال في جعبة القصر تراجيديا، فيجلس الملك فاروق على العرش، وقد مرت رحلة حكمه بعدة محطات منها، توقيع حزب الوفد برئاسة زعيم الامة "النحاس باشا" معاهدة سنة 1936مع بريطانيا فيدخل على إثرها أبناء المصريين البسطاء الكلية الحربية ليصبحوا ضباطا. ومحطة اخرى فارقة وهي حادثة 4 فبراير.

وفي اخر سنوات حكمه سيطرت عليه حفنة من حاشية فاسدة، وتوالت عليه المصائب والمآسي من هروب امه "الملكة نازلي" وأخته فتحية الى أمريكا واعتناقهما الديانة المسيحية، تزامن ذلك مع طلاقه من "الملكة فريدة "ومأساة حرب 48، وجاء حريق القاهرة 52 ليدق المسمار الأخير في نعش العرش الملكي، فصارت البلاد مهيأة لتغيير جذري، وعلى الرغم من التحضر المعماري والحرية والديمقراطية والانتعاش الاقتصادي والارتقاء بالفنون والثقافة في عهد مولانا، إلا أن معظم الشعب عانى غياب العدالة الاجتماعية، وفي لحظة تاريخية مفصلية عاد أبناء أحمد عرابي من جديد الى نفس القصر الذي تمت خيانتهم فيه ليأخذوا بثأرهم، وفي صباح 23 يوليو يستيقظ فاروق من نَومِه على حركة الضباط الأحرار فيخرج سريعا من قصر المنتزه ومعه أولاده الأربعة وزوجته الملكة نريمان إلى قصر رأس التين ليحتمي به، ويعيش مولانا أسوأ ثلاثة أيام في حياته في نفس بهو قاعة العرش؛ فيسترجع نفي جده إسماعيل وخيانة عمه توفيق وحبس وموت جده الأكبر، ويجري اتصالات  بتلفونه اللاسلكى مع بعض الملوك والسفراء الأجانب لمساعدته وإنقاذه ولكن دون جدوى، وفي يوم 26 يوليو وبعد التوسط من قبل "على باشا ماهر "مع اللواء محمد نجيب يوقع فاروق وثيقة تنازله عن عرش مصر لابنه "أحمد فؤاد" وفي السادسة مساء يخرج فاروق مرتديا زي أمير البحار ويسير بين حرس الشرف لوداعه  في مشهد مازال عالقًا  بالذاكرة؛ وتختلط دموع الخدم والحشم مع أصوات المدافع التي أطلقت 21 طلقة وبعدها يستقل يخت المحروسة متجها إلى نابولي التي اختارها منفى له، ثم تعود المحروسة مرة أخرى للمصريين.

ويرحل الملوك والأمراء ويبقى قصر رأس التين العريق صامدا أمامَ الأمواج العاتية ورياح النَوّات الشتوية القاسية جذوره في أعماق البحر وقبته لؤلؤة مضيئة في قلب المتوسط، ورائحة من ماضي الإسكندرية  الذي رحل بكل جماله وروعته أو يكاد.

Dr.Randa
Dr.Radwa