تدور أحداث رواية "البوصلة" للروائي الفرنسي ماتياس إينار الفائز بـ"جائزة جونكور الفرنسية" لعام 2015 حول المستشرق النمساوي وعالِم الموسيقى من فيينا "فرانتز ريتر" الذي يُعاني من الأرق، بعد أن صدمه تشخيص طبي ينذره بخطر الموت، ويهرب من ليلته الطويلة وحيدًا في ذكريات حياته من السفر والدراسة، ليستعيد رحلاتهُ في الشرق، لقاءاته المتعددة، شغفه بـ "سارة"، المرأة الفرنسية المثقفة والمتوهجة والحُرة؛ ليأخذنا في جولة حول العَلاقة الحضارية والثقافية والفنية بين الشرق والغرب، بين مصر وسوريا وإيران ولُبنان وفرنسا والنمسا، موضحـًا بشكل فعَّال وقوي للغاية تاريخ العَلاقات بين الشرق والغرب التي تتجاذب وتتنافر، حيث يوجد كلٌّ منهما فيما يتعلق بالآخر، في مُساهمات مثمرة تسير في كلا الاتجاهين ويتم بناؤها من خلال الصورة التي يرسلها الآخر إليه.
يُهدي إينار الرواية التي ترجمها طارق أبي سمرا، وصدرت عن منشورات الجمل قائلًا: "إلى بيتر ميتكالف وبحثه نبيذ الجثة، أكل لحوم البشر داخل القبيلة الواحدة ووليمة الموتى الكبرى في بورنيو" المنشور في مجلة ريبريزانتاسيون عام 1987، والذي استلهمت منه مقالة "حول نبيذ الموتى في ساراواك ـ من نافل القول إن بحث بيتر ميتكالف ينم عن عمق وسعة معرفة أكثر مما يوحي به كلام فرانتز وسارة ـ بطلًا الرواية. وإلى برنامج فنانون في برلين للهيئة الألمانية للتبادل الثقافي الذي استضافني في برلين وأتاح لي أن أغوص في الاستشراق الألماني. وإلى جميع الباحثين الذين ألهمتني أعمالهم، مستشرقين قُدامى ومعاصرين ومؤرخين وعلماء موسيقيين، باحثين في الأدب؛ حاولت قدرَّ المستطاع حين ورد ذكرهم ألا أخون وجهات نظرهم. وإلى معلمايا السابقين كريستوف بالاي وريكاردو زيبولي؛ إلى دائرة المستشرقين المحزونين؛ إلى رفاقي في باريس، في دمشق وفي طهران. إلى السوريين".
الرواية تختلط فيها الشخصيات الخيالية مع الشخصيات الحقيقية لتقدم لنا سحرَ الشرقِ، بعطوره وشهوانية وجماله، وقسوته أيضـًا، الشرق الحقيقي والشرق الحالم، ينجذب القارئُ إلى انجراف طويل وبطيءٍ يندفع فيه الكُتاب والشعراء والموسيقيون وعلماء الآثار والمستشرقون وأحيانـًا الجواسيس في خدمة حكوماتهم، النقطة المُشتركة بينهم، في الغالب، هي أن تكون غاضبـًا من الشرق، الجنون الذي يتخذ أشكالا مختلفة في الشرق يحاول فرانتز ريتر تصنيفه إلى خمسة أجزاء تَعَضُّ على بعضها البعض: المستشرقون العاشقون، قافلة المتنكرين، الغرغرينا والسُّل، بورتريهات مستشرقين كقادة جيوش المؤمنين، موسوعة مقطوعي الرؤوس.
يقول إينار كاشفـًا عن جانبٍ مُهمٍ من رؤيته في الرواية: "إن افتتحنا هذا العمل بصادق هدايت وروايته (البومة العمياء) فلأننا نسعى الى اكتشاف الصدع وسَبَرَ أعماقه، فنتسلل الى دواخل نشوة أولئك الذين تهاووا عميقـًا في الغيرية، وسوف نأخذ بيد هذا الرجل قصير القامة وننزل معـًا لمعاينة الجراح التي تبري، والمخدرات، والأمكنة التي هي خارج هذه الحياة، فنستكشف هذا البين بين، هذا البرزخ، هذا العالم الذي بين العوالم حيث يسقط الفنانون والرحالة".
تنوع مذهل للشرق، وجماله، وأشعاره وأساطيره وموسيقاه وعنفه أيضـًا، يتخلل هذه الرواية بصحبة شخصيات بارزة في الاستشراق كانت لهم ميزة التعريف بهذه الثقافة حتى لو كانت مشوبة أحيانـًا بسحر أعمى ودهشة -الخيال المتكرر للشرق المتسامي الذي تنقله ألف ليلة وليلة-.
يقدم إينار مجموعة واسعة من الحكايات، من النساء الأوروبيات المختلفات اللواتي سافرنَّ وعشنَّ بين دول الشرق إلى أولئك الكُتَّاب والموسيقيين الذين تأثروا به كثيرًا، مثل بلزاك الذي تأثر بحكايات ألف ليلة وليلة، وأدخل قطعة من اللغة العربية في روايته "الجلد المسحور" ابتداءً من صدور الطبعة المصوّرة الأولى لها عام 1838، وأيضـًا ملحنون مثل ليزت وبارتوك اللذين تأثرت موسيقاهما بالشرق. إنه يلعن فاجنر ويمدح بيتهوفن (لأسباب ليس أقلها إنه غادر ألمانيا، مفضلًا العيش في فيينا) وحتى أنه تلقى بوصلة على غرار بيتهوفن كهدية من "سارة"، وهي بوصلة لا تشير إلى الشمال بل إلى الشرق، وفوق كل شيء.
إلى أي مدى تعتمد أفكار ثقافة ما على الآخرين، ربما دون معرفة أو الاعتراف بهذا الاعتماد؟ في هذا الرواية البارعة وتشكيلاتها الموسوعية غير مقصودة لأعمال من الشرق، يدعو إينار القارئ إلى استنتاج أن الشرق والغرب دائمـًا متشابكان وموجودان في بعضهما البعض. يمكن للمثقفين الغربيين أن يتخيلوا أنفسهم على أنهم أصحاب الحقيقة المدروسة، وللمثقفين الشرقيين أن يفعلوا الشيء نفسه، لينظر كل منهم إلى أفكار ثقافة الآخر على أنها أجنبية أو حتى مهددة لثقافته، ولا يعرف أن هذه الأفكار قد تكون مختلطة أو قريبة من أفكارهم. بين اثنين من أفكارهما، قد يجدون فكرة أجنبية.
إن روحانية الأفكار هذه تعتمد على القرب المادي للمشاركين وسرعة التطور الثقافي. يمكن لنهر الدانوب أن يربط بين الكاثوليكية والأرثوذكسية والإسلام؛ ولكن يمكن للمفاهيم أيضًا أن تربطهم ببعضهم البعض، وخلطهم في ظلِّ درجة حرارة ثقافية عالية بما يكفي، أو كتلة حرجة من الورق تُسمَّى الكُتب، أو الجشع النهم للمعرفة. يمكن أن يؤثر هذا على الهيئات الحاكمة المعاصرة، التي لا تستطيع بعد ذلك تحقيق التوازن في المجتمعات المتقلبة التي تحاول أن تحكمها. هناك اضطرابات ثقافية ومفاهيمية قوية تجعلهم يسقطون إلى اليسار واليمين وتحت الحزام. هذه المجتمعات، على حدِّ تعبير المؤلف: تغرق في مضرب الحداثة.
يمكن أن تشير "البوصلة" الثقافية في اتجاه انحياز قوي، فقط لتتحول في اتجاه آخر عندما تواجه وجهة نظر أُخرى. يمكن أن يترافق الغضب والعنف في كثير من الأحيان مع هذا التغيير في الاتجاه، حتى الدعوة إلى حمل السلاح. لا يرغب البعض في إفساد تفردهم، وثقافتهم المُفعمة بالحيوية، من خلال جذب الأعراف والثقافات الأخرى، متناسين أنه مع تراجع الاتهامات، قد تكون أعرافهم وثقافتهم في صراع غير قابل للحل على ما يبدو وغير قادرين على تشكيل جاذب مستقر. هناك ما لا يقل عن ألف سبب للدعوة المتعمدة للتأثيرات الثقافية التي تبدو مختلفة على ما يبدو عن التأثيرات الخاصة بالفرد، ولكن هناك القليل منها فقط يرفض بدافع كراهية الأجانب.
يمكن للمرء أن يجادل بأن المثقفين لم يقرأوا أبدًا أي شيء خارج نطاق تأثيرهم (المصطنع/ الصغير). ربما لم يكن هذا هو هدفهم أبدًا، لكن ما يقرؤونه قد يكون في الواقع كثير من القواسم المشتركة مع كتابات أخرى "أجنبية"، وفي الواقع يكون تقريبيًا قويًا. ونعم، يشعر البعض في الأوساط الأكاديمية بالذهول من احتمال أن يكون هناك شخص من خارج الأكاديمية يعرف أكثر مما يعرف. لكن مخاوفهم مضللة، ويرجع ذلك جزئيًا إلى صعوبة تحديد مقدار المعرفة ونقاوتها/ نسبها.
يهاجم إينار عددًا من الشخصيات التاريخية في هذا الكتاب، مدعيـًا مثلًا أن نابليون كان تنينـًا فظيعـًا. هذه الآن بديهية واضحة للتاريخ، ونصب نابليون التذكارية هي ندوب على المناظر الطبيعية الباريسية، وليست زخارف. إنهم يشهدون على غباء أولئك الذين تبعوه في المعركة، كتذكير بالعواقب المروعة لتبجيلهم المفرط لعريف الجبن هذا. بدلًا من النظر إلى نصب تذكاري، من الأفضل أن تتذكر نابليون من خلال المشي بالخارج مرتديـًا ملابس خفيفة عندما يتساقط الثلج والرياح. سيشكل هذا تقريبـًا ضعيفـًا للتراجع المحتضر من موسكو، وهو تراجع أمر به فرد يُعاني من نقص شديد في الخيال والذكاء.
إلى جانب اللغة الغنية، سواء في اللغة الفرنسية الأصلية أو في ترجمتها، هناك الكثير للاستمتاع والتعلم من قراءة هذا الكتاب الغني بالمناقشات والمعارف الأدبية والثقافية والموسيقية.
مقتطف مِن الرواية
من الجزء الخاص بـ "المستشرقون العاشقون":
سأعثر هنا على مادة وفيرة، عند مجانين العشق من جميع الأصناف، السعداء كما التعساء، الصوفيين كما الإباحيين، النساء كما الرجال، لكن فقط لو كنت أجيد شيئا غير اجترار القصص القديمة جالسا في سريري، لو كنت أمتلك طاقة بلزاك أو فرانتس ليست، لو كنت أنعم بصحة جيدة خاصة ـ لست أدري ما الذي سيحصل لي في الأيام المُقبلة، عليَّ أن أُسَلِم أمري للطب، أي للأسوأ، لا أتخيل نفسي أبدًا في المستشفى، ماذا سأفعل هناك خلال ليالي الأرق؟ في كتابه "أشياء رأيتها"، يصف فيكتور هوغو المفتُون بالشرق، احتضارَ بلزاك، فيقول إن السيد بلزاك كان في سريره، رأسه على كومة مرتفعة من الوسائد، جلب بعض منها من الكنبة ذات القماش الدمشقي الأحمر التي في الغرفة. كان وجهه بنفسجيّـًا، أسود تقريبـًا، يَميل إلى جهة اليمين، لحيته غير مُشذبةٍ، شعره رمادي قصير، وعيناه جامدتين ومفتوحتين على وسعهما. رائحةٌ لا تُحْتمل كانت تنبعث من السرير. رفع هوغو الغطاء وأمسك بيد بلزاك. كانت تتعرق غزيرًا. ضغط عليها.
لم يستجبْ بلزاك. كان ثمَّة مُمرضة عجوز وخادم يقف كل منهما بجانب أحد طرفي السرير. هناك شمعة مشتعلة على الطاولة خلف رأس السرير، وأُخرى على منضدة بالقرب من الباب، ومزهرية فضية على طاولة صغيرة بمحاذاة السرير. كان الرجل والمرأة صامتين مذعورين، ينصتان إلى حشرجة المريض، المرتفعة، لقد عادت مدام هانسكا إلى منزلها، لا شك لأنها لم تحتمل سماع حشرجة زوجها ورؤيته يحتضر: يروي هوغو فظائع كثيرة حول الخراج في ساق بلزاك، الذي كان انفجر قبل بضعة أيام.
يا لها من لعنة أن تمتلك جسدًا، لماذا لم يعطوا بلزاك أفيونـًا أو موروفينـًا كما فعلوا مع هاينرش هاينه، جسد هاينه المُعذب هو الآخر، هاينه الذي كان مقتنعـًا أنه يحتضر ببطء من داء الوهري في حين يميل أطباء اليوم إلى الاعتقاد بأنه كان يعاني من التصلب المتعدد على الأغلب، مرضي تنكسي طويل الأمد على أية حال، سمره في السرير لسنوات، يا إلهي ثمة مقالة علمية تفصل جرعات المورفين التي كان يتناولها هاينه، يساعده في ذلك صيدلي عطوف كان قد أتاح له الاستفادة من المورفين، هذا الابتكار الجديد الذي هو عصارة العصارة التي تستخرج من الخشخاش الإلهي ـ على الأقل ففي القرن الحادي والعشرين، لا يُرفض هذا النوع من العناية لمريض يحتضر، فقط يحاولون إبعاده من الأحياء.
لم أعدْ أذكر أي كاتب فرنسي يعاتبُنا على بقائنا أحياء في حين أن بيتهوفن قد لقي حتفه، ما أغاظني بشكل يفوق الوصف، كان عنوان كتابه "كيف يعقل أن بيتهوفن قد لقي حتفه بينما الكثير من الأغبياء مازالوا أحياء يرزقون"، أو شيء من هذا القبيل، وهو يقسم البشرية إلى فئتين إذا: "الحمقى من جهة، والذين يشبهون بيتهوفن من جهة ثانية"، أنا متأكد من أن هذا المؤلف يعد نفسه بكل فخر واعتزاز من بين أشباه بيتهوفن، هؤلاء الذين سيكفر مجدهم الأبدي عن مساوئهم ورذائلهم الدنيوية، وأنه يتمنى لنا جميعا الموت، انتقامـًا لرحيل معلم مدينة "بون" عن الدنيا.