الخميس 2 مايو 2024

غيَّرْتُ جِلْدِي.. وارْتديتُ البدلةْ..!!

مقالات2-8-2023 | 13:53

لم يكن مصطلح الوطن كما نعرفه اليوم من خلال حدوده الجغرافية وأقاليمه الإدارية أو مدلوله السياسي هو ذاته الذي كثيراً ما تردَّد على ألسنة الشعراء ، ومن  تبحّر في أشكال التعبير عن الوطن ، والحنين إلى المنازل والديار في الأدب العربيّ القديم شعره ونثره ، سيجد أنه يثير أموراً من قبيل الأهل والقبيلة والعشيرة والخِلّان ، وتلفت الانتباه إلى روابطَ وثيقةِ الصلة تربط الإنسان بوطنه ، فلقد  أمضى به ريعان شبابه ، ورضع من حليبه ، وطَعِم من طعامه، وارتوى من مائه ، وامتلأت عينه بمشاهد جماله ...!!

هذه الألفة الفطرية والعلاقة شديدة الحميمية بمفردات المكان وعناصره تجعل مفهوم الوطن من الجائز أن يعني الشاعر به منزله ؛ مثلما ورد على لسان الشاعر العباسي" ابن الرومي "إذ يقول : (ولي وطن آليت الا أبيعه* *وألا أرى غيري له الدهر مالكا) ، أو يشير به الشاعر إلى الأراضي التي تتنقل القبيلة بين أرجائها مثلما ورد على لسان الشاعر الجاهلي"عمرو بن كلثوم" مصوِّراً لحظة وداع محبوبته (وأعرضت اليمامة واشمخرَّتْ * *كأسيافٍ بأيدي مصلتينا) إذْ أراد الشاعر متابعة ركْب المحبوبة ؛ فلم تمهله قرى اليمامة وهي بلاد بني تميم وارتفعت كأنها أسيافٌ قد أُشْهرتْ من أغمادها ؛ لتقطع أمله في وداع محبوبته بعدما بادرتْه بقرار الرحيل ، فلم يجد بُدًّا من إلقاء نظرته الأخيرة ...أقول لهذه الروابط الوثيقة الفضل-كل الفضل-أو لنقلْ هذا الحبّ لمفردات المكان وعناصره أكبر الأسباب في نشوء حضارة الإنسان ..!!

 أجل ... لقد كان هذا المعنى لمصطلح "الوطن" هو السائد، حسبما أرى ، إلى أن بدأت الهجمة الاستعمارية على منطقتنا العربية ، ولايمكن أن نكون مغالين إذا قلنا : إن تَكوُّن الوعي الوطني المصري ناتجٌ عن شيوع مصطلحَي الوطن والوطنيّة اللذَين أنتجتهما حملة "نابليون" على مصر من جهة ، وتشرُّب الطهطاوي لهذه الأفكار خلال إقامته في فرنسا (١٨٢٦ــ١٩٣١) من جهةٍ أخرى ، لذلك لم يكن من المستغْرَب أن يُشتَهَر"محمود سامي البارودي" بأدب الحنين إلى الوطن ؛ إذ كتب حينما نُفِيَ إلى"سرنديب" الكثير من القصائد الباكية فيقول :(وَاطُولَ شَوْقِي إِلَيْكَ يَا وَطَنُ * * وَإِنْ عَرَتْنِي بِحُبِّكَ الْمِحَنُ) ، وكذلك "أحمد شوقي" الذي لا يكتم شوقه الدائم إلى "مصر" حال نفيه إلى أسبانيا أو عقب عودته فيقول :(وَيا وَطَني لَقَيتُكَ بَعدَ يَأسٍ * *كَأَنّي قَد لَقيتُ بِكَ الشَبابا) ..!!

وإذا كان شعراء المهاجر الذين هاجروا إلى الأمريكتين فراراً من البطش العثماني وطلبا للحرية...إلا أن أحلامهم لم تتحقق في أوطانهم الجديدة ؛ بسبب اختلاف الإطار الاجتماعي والحضاري والثقافي لهذه البلاد عن أوطانهم العربية ، وظل هؤلاء الشعراء كالمعلَّقين في الهواء وعاش معظمهم فقيراً ومات فقيراً ، وكل ما حققوه هناك هو شعورهم بالحرية ، نعم عاشوا كالمعلقين في الهواء ؛ فلا هم اندمجوا في أوطانهم الجديدة ، ولا استطاعوا نسيان ديارهم الأولي..!! وزاد تطلُّعهم إلى قيم الشرق وروحانيته ، إذْ لم يجدوها في الغرب بسبب نظرة الغرب المادية، وما لمسوه من تعصُّب عِرْقيٍّ ولونيٍّ جعلهم يعانون القلق والحيرة ، ويشتعل حنينهم الجارف إلى أوطانهم فأذابوه شعراً رقيقاً يفيض شوقاً وحباً وحنيناً إليه ، وكلَّما قست الحياة عليهم -وكثيراً ما قست- زادوا من نغمات حنينهم ،يقول"نعمة قازان": (غريبٌ أراني على ضفَّة * * كأني غيري على ضفتي / فحتَّى السَّواقي إذا نَغَّمتْ * * كأن السَّـواقي بلا نَغْمةِ / فلا لا أحِبُّ سِوَى قريتِي * *و لا لا أريدُ سوَى أُمَّتِي) ... أقول إن العجز عن الاندماج ناتج عن فوارق بين عالمين شديديّْ التنافر وحياتين على طرفيْ نقيضٍ مُحالٌ أن يلتقيا ...!!

وها نحن نصل محطتنا الأخيرة والشعر الأفريقي والشاعر الجنوب أفريقي "مازيسي كونين"، وهو من العلامات البارزة بين شعراء أفريقيا ؛ اضطرته حكومة جنوب أفريقيا العنصرية إلي ترْك وطنه تجنباً للمضايقات والمصادرة والزجِّ في السجون هو وغيره من المبدعين ؛ فسافر لينعم بالحرية لكنه ما لبث أن أدرك أن الشعاراتِ البرَّاقةَ شيءٌ والواقع المرير شيءٌ آخر ...!! لا أريد أن أقول أكثر من ذلك ... لأتركك -عزيزي القارئ- تدخل عالم "مازيسي كونين" الرَّحْب  وتستمتع بقصيدة (العودة إلى الدغل) الراصدة ما عاناه في أوروبا :
قلت لي ألا أذبح الثور الأسود لآجل أسلافي ... وألا أرتدي جلده
وبدلاً من أن تعلمني كيف أتغيّر
وأعرف كيفية تناول الديك الرومي في الكريسماس ... كما يفعل المتحضرون
قلت لي إن أولئك الناس .... برابرة ... وإن الذين يلّطخون وجوههم بالنقود ... سفاحون
انتبهت لنصيحتك الأبوية ... فغيرت جلدي ... وارتديت البدلة
ومن أجل تجميل وجه زوجتي ... قدمت لها مراهم هيلينا
وعندما ذهبنا إلى حيث يذهب الآخرون ... كانوا يطردوننا ...!!

Dr.Randa
Dr.Radwa