كتب: أحمد سعدة
منذ ثلاثة وعشرين سنة كنت راسبًا فى الثانوية العامة.. وكان والدى رحمة الله عليه يقوم بعرضى على طبيب نفسى فى مستشفى حكومي، ليس بسبب رسوبى الدراسى ولكن بسبب أننى كنت انطوائيًا ومنعزلًا.. وكان صوتى منخفضًا جدًا لا يسمعه إلا من يقترب بأذنيه من فمى..
كنت شخصا صامتا، يتلعثم حين يتكلم، ويتجنب التواصل البصرى أثناء الحوار مع الآخرين.. شديد الخجل وعاجز عن التواصل مع الغرباء، ولا ألقى التحية على أى إنسان.. ولم أكن أصافح قريباتى من النساء.. ولم أتشاجر فى حياتى ولو لمرة واحدة..
بعد عدد من الجلسات أقر الطبيب النفسى أننى مصاب باضطراب نفسى أدى لإصابتى «بشرخ فى الروح» وحالة من الفتور الداخلى.. لكنه فى نفس الوقت أقر بعجزه عن تحديد طريقة علاجى.. ونصحنى أن أذهب إلى الأماكن العامة مثل السينما والمراكز الثقافية، وأن أتبادل الحديث مع من يجاورنى ولا أجلس لوحدى منعزلًا..
وبالفعل، استجبتُ لنصائح الطبيب.. وكان أول من تبادلت معه الحديث شخصًا طيبًا وودودًا ومتابعًا جيدا لأفلام المراكز الثقافية، وعلى دراية بجميع عناوينها.. واكتشفت أن هذا الشخص على غير المتوقع يعمل كأمين شرطة فى مديرية أمن القاهرة ويُدعى «سعد» ويدرس بكلية الحقوق..
كنت أنتظر سعد عند خروجه من العمل على مقهى خلف المديرية، حيث يقوم باستبدال ملابسه الميرى داخل المقهى، ثم نمضى معا لمشاهدة الأفلام.. وكنت فى ذلك الوقت أتابع باهتمام عربات الترحيلات أمام قسم الاستقبال خلف المديرية، أو بالأدق؛ كنت أتابع المشاعر الإنسانية لأم تنتظر ابنها السجين، أو زوجة فى حالة اشتياق لزوجها، أو أخت متلهفة على رؤية شقيقها..
تلك كانت مشاعر رائعة فى مواقف صعبة..
فى إحدى المرات وقفت سيارة ترحيلات صغيرة أمام المقهى، وأطلت من خلف قضبانها سيدة برداء السجن الأبيض وطرحة تغطى الشعر، ثم وقعت عيناها فى عينى وأنا جالس على المقهى ونادتني: لو سمحت.. لو سمحت.. وقفت أمام قضبان العربة لأجدها تمد يدها بنقود وتطلب منى أن أشترى لها سجائر، فلم أتناول نقودها بل أحضرت لها السجائر إضافة لسندوتشات حلاوة بالقشدة وعلبة عصير كنت قد اشتريتها لنفسى ولم أتناولها بعد.. وأصرت على إعطائى النقود، ولكننى رفضت تمامًا..
وقالت لى: نفسى جاية على الشاى مش العصير، بس الكوباية مش هتدخل من قضبان العربية..
حينها وضعت الشاى فى كيس بلاستيك، ووضعت فيه شفاطة عصير، وأمسكت لها بالكيس بينما الشفاطة على فمها لتتناول الشاى..
وكان هذا الموقف هو أول مرة أتصرف فيها فى حياتى بمفردى..
شكرتنى بشدة، وعرفتنى بأن اسمها صابرين.. وناولتنى سيجارة، فأخبرتها أننى لا أدخن..
سألتنى: إنت منين ؟؟.. ثم طلبت منى أن أذهب لسيدة فى الدقي، وأقول لها: صابرين عايزة منك الأمانة.. وبعدها أقوم بتوصيل هذه الأمانة لشقيقة صابرين التى تعيش فى منطقة اسمها «لعبة» مع أبناء وبنات صابرين..
فى هذا الوقت كان رجال الأمن قد أنهوا إجراءاتهم، وفتحوا باب العربة لتخرج منه سيدتان، ولم أشاهد وجه صابرين.. وعندما جاء سعد قلت له: أنا لسه مكلم مسجونة كانت فى العربية..
فنظر سعد إلى أرقام العربة، وقال: دى ٦ أ ج ، يعنى ترحيلات آداب جنوب القاهرة.. وقفت مع نفسى لحظات أفكر هل أذهب لإحضار الأمانة وأقوم بتوصيلها، أم أمضى مع سعد لمشاهدة الفيلم..
وحسمت قرارى بالاعتذار لسعد.. وذهبت للدقى.. وكانت الأمانة عبارة عن مائتى جنيه قمت بتوصيلها لشقيقة صابرين.. وشتان الفارق ما بين الدقى ولعبة.. !
فى اليوم التالى طلبت من سعد زيارة صابرين لإخبارها أن الأمانة وصلت.. فأخبرنى أن الزيارة تحتاج لإذن من النيابة، وإحنا أصلا منعرفش اسمها بالكامل.. ولكن كانت هناك وسيلة يومية تستخدم لتبادل الحوار مع السجناء والسجينات.. حيث كانت بلكونات العمارات القديمة المواجهة لزنازين السجن تستخدم لتبادل الحوار بالصوت العالى بين السجناء وذويهم مقابل ثلاثة جنيهات.. وكانت قضايا الآداب فى أربع زنازين متجاورة..
صعد بى سعد إلى إحدى البلكونات المواجهة لعنابر الآداب.. وناديت: يا صابرين، يا صابرين.. الأمانة وصلت، الأمانة وصلت.. قولوا لصابرين الأمانة وصلت..
وكانت تلك هى المرة الأولى التى يخرج فيها صوتى عاليًا جدًا.. !
وبعدها أحضر لى سعد بيانات صابرين عن طريق تاريخ دخولها.. وعرفت أن عمرها ٢٨ سنة، ومطلقة.. وسيتم ترحيلها لسجن القناطر فى نفس يوم دخول المدارس.. وكانت أمنيتى أن أراها للمرة الأخيرة قبل ترحيلها، وأُعطيها شنطة ساندوتشات وعصائر وسجائر وشاى..
وللأسف، عُدت للمدرسة.. ووقفت فى الطابور، بينما ناظر المدرسة يهشنا بعصاه كما الأغنام.. لكنى أصبحت أتكلم بصوت عالٍ يسمعه الجميع، وصرت قادرا على التصرف بمفردى، ومناقشة البشر، وخرجت من انطوائيتى ووحدتى..
فى منطقة شعبية ما من هذا العالم تعيش امرأة اسمها صابرين، لو أنها حية للآن سيكون عمرها ٥١ عاما.. لا أعرف عنها كثيرًا.. لكن ما أعرفه جيدًا أنها حلت عقدة لساني، بل حلت لى جميع عقدي، ورمتنى بسهم فى قلبى.. وللآن لم أستطع نسيانها.
سعد لم أعد أقابله كثيرًا.. وآخر مرة رأيته كان فى اعتصام على سلم نقابة المحامين، لكنه لم يكن تابعًا للأمن بل كان مع المحامين المعتصمين بعد أن ترك الشرطة واشتغل بالمحاماة.. وفى الاعتصام تقابلت مع أستاذ فى كلية فنون تطبيقية، وسألناه أنا وسعد عن «صابرين» وهل ما أحمله بداخلى نحوها حبا، أم مجرد لقاء عابر؟
فرد قائلا: «الحب اللى بجد، هو اللى بيعالج الشروخ اللى جوه الروح»..
فما رأيك ؟
تامر عبد رب النبى..
*** الـــــــــــــــــرد ***
القصة جميلة يا تامر.. والأجمل أنك تغلبت على مشاكلك النفسية وخرجت منها..
لكن دعنى أقول شيئا آخر:
إن ما تحمله بداخلك ليس حبا بالطبع.. إنما هو مجرد شعور بالوفاء والعرفان.. أما التفكير فى الأمر على أنه حب، ليس سوى أوهام تغذيها الخيالات والتصورات عن امرأة قابلتها وتعاملت معها، ومنحتك الثقة فى نفسك بشكل غير مقصود..
هى حتى لا تعرف أنها كانت سببًا فى خروجك من نفسك والارتماء فى حضن الواقع.. وأغلب الظن أنك لم تعد تتذكر ملامحها..
إن الإنسان لا يعرف نفسه ولا يستطيع الحكم على أخلاقياته إلا بالاحتكاك والتجربة.. وبدون الخطر لن يعرف مدى شجاعته من خوفه، وبدون إغراء حقيقى لن يكتشف مدى أصالته وسلامة إرادته..
وهذه المرأة باختصار كانت أول موقف حقيقى تتعامل معه..
إنها مجرد لقاء عابر حدث فى فترات مراهقتك وعزلتك الاجتماعية.. وأغلب الظن أنك لو قابلتها الآن ستراها امرأة أخرى تماما غير التى قابلتها..
إن قصتك مادة جيدة جدا لأن تكون ذكرى خالدة فى حياتك تلفت إليها باحترام وإعجاب، وتبتسم.. لكن لا تصلح أبدًا لأن تكون موضوعًا للحب، أو محلا للحيرة والتساؤل.